شعرتُ "بشيءٍ" فكوّن...
 
الإشعارات
مسح الكل

نقاش شعرتُ "بشيءٍ" فكوّنتُ "شيئًا" - نزار قباني

User Avatar
(@essammutair)
Estimable Member Admin
التعبير
المقام السادس
Points: 515192
انضم: منذ 12 سنة
المشاركات: 62
بداية الموضوع  

 

 

"ورقة إلى القارئ" كانت أول قصيدة لـ نزار بأول ديوان شعري له : "قالت لي السمراء" 1944 م ، وهي منظومة على البحر المتقارب

ومن أبياتها اخترت من جزئها الأخير :

شعرتُ "بشيءٍ" فكوّنتُ "شيئًا"
بعفويةٍ ، دون أن أقصدا
،
فيا قارئي ، يا رفيق الطريقِ
أنا الشفتان وأنتَ الصدى

 

لقد نقل لنا نزار في نصه الأول ، وصفًا دقيقا لموهبة الشعر ، إنه شعور ، ثم تكوين ، و(بعفوية)/تلقائية ، دون تخطيط سابق (دون أن أقصدا) ، أي إنه مُلهَم عبر مروره بالمحيط لكن الشعور هنا أيضًا ذاتي ، نابع من عمقه ، إنه ذكاء ما ، طريقة تفكير فطرية تدفع للتأليف المجازي والغناء ، فالشعر موهبةً لا يمكن تعليمه لكنه بالطبع صقلًا قابلٌ لاكتساب مهارات وأساليب خاصة ، وهو إصغاء ، للذات ، للشعور الذي يجيء مختلطا باللغة ورغبة التكوين/الخلق وبهذا فهو متأثر بالرغبة (الجنسية تحديدًا كما يرى ذلك فرويد) ، وإن كنت (أرفض جعلها حصرًا السبب ) لكني أتفق بكون الشعور الحياتي الكبير متأثر في نشاطها وحجمها حتى لو بالسلب ،
وفرويد له تفسيره عن الفن والفنان ، حيث نقل عنه منتقدًا قوله (جيروم ستولينز) :

إذ للفنان رغبات بالمجد والثراء والنساء والرفعة لكن هذه الرغبات لا يستطيع تحقيقها فيتجه نحو الفن فيمنحها رمزية عبر الخيالات والصور تدل بدلالات على محتويات التخييل الأصلية وتوحي بها ولكنها مختلفة عنها وأيضا عبر التباس المعنى ambiguity (إعطاء الصور معاني مختلفة ، هذا عادة يحدث بالشعر ) وبذلك يطمس دلالتها الأصلية وبهذا يستطيع الفنان أن بسعد و يبتهج مع جمهوره ويستمتع دون كبت بحلمه ورغباته
،
فرويد

 

حاول فرويد أن يفسر الفن هكذا ، مع ذاك لم يجزم بأن هذه طبيعة الفن (كما قرأته في كتاب النقد الفني دراسة جمالية ، جيروم ستولنيتز) ، وهو تفسير بالمناسبة يفسر الظاهرة وفق نشأتها لكنه لا يبصر الظاهرة في ذاتها ، وهذه النقطة قام كتاب (حيروم ستوليتز) عليها .

ونقطة الكبت والفن هي ذاتها ما شرحه سلامه موسى بكتابه العقل الباطن المنشور عام ١٩٢٧ حيث كتب فيه عن نظريات فرويد وغيره من علماء التفس
فيقول عن الكبت والتسامي :

"أرغبُ الناسِ في وصف الأطعمة وألوانها هو الجائع، أما الشبعان فليس أسأم لنفسه من ذلك.
وكذلك أرغب الناس في وصف الجمال ولذَّات العشق هو المحروم من الحب أو المقهور في عواطفه الجنسية.
ومعنى هذا أن عاطفة الجوع المكبوتة قد تستحيل عند الجائع إلى نوع من الفن الوصفي وتستحيل عاطفة الحب عند العاشق إلى نوع من الأدب الغرامي.
وهذا هو التسامي؛ أي إننا نتسامى بالعاطفة إلى فن من الفنون العليا فنصرفها إليه، فإذا وجدت مُنصرَفًا إليه خفَّ اللبيد المحتبس من جهة ونبغنا نحن في الفن من جهة أخرى"

ومع كل هذه النزعة باختزال الفن بالرغبة الجنسية وفاعليتها بالتسامي والتشكيل الفني ، ينبغي أن تقول أن هناك أمرًا مفقودا له علاقة بالمجتمع وقوالبه ، والمحيط وتأثيراته ، واللغة ذاتها وإمكانياتها ، وظروف الإنسان الاجتماعية ، وما تفعله العقيدة والانتماء بالعاطفة ، وما تعلمه المرء من والديه وأقاربه ، وكذلك ما كان عميقًا متأصلا في الهوية وكل ذلك يؤكد على أن اختزال الشعر بالرغبة كان نقصًا في تفسير ظاهرة الشعر برمتها .

▪️يدخل الكبت والقمع في طور تشكيل الموضوع الشعري وهذا أمر طبيعي ، فالألم دافع قوي للتعبير .

نعود لنص نزار قباني ومطلعه :

كمَيْسِ الهوادجِ ... شرقية ٌ

ترش على الشمس حلوا الحِدا

،
كدندنة البدو فوق سريرٍ

من الرمل ينشف فيه الندا
،


ومثل بكاء المآذن ، سِرتُ

الى الله أجرح صوت المدى
،


أعبىء جيبي نجوماً وأبني 

على مقعد الشمس لي مقعدا
،


ويبكي الغروب على شرفتي

ويبكي لأمنحه موعدا
،


شراعٌ أنا لا يطيق الوصول

ضياعٌ أنا لا يريد الهدى

جاء وزن البحر المتقارب كعادته غنائيًا يمنح النص طربية القراءة ،
فهذا البحر المتكون من نوع واحد من التفاعيل : فعولن ، سرعان ما يشعر قارئ نصوصه بموسيقى واضحة باستمراره بالقراءة أو الإصغاء .

يهمنا أيضًا بالأبيات السابقة ، قول نزار:
"شراعٌ أنا لا يطيق الوصول
ضياع أنا لا يريد الهدى ، "

البيت يحمل مضمونه ، صفة الشاعر ، هويته ، نزار هنا يقدم نفسه شاعرًا ، إنه يتحدث عن ذاته في كونها ذات شاعر وبالتالي هذا الانفعال وتلك المفارقة لابد أن تكون صفته ، وقد رفع سقف الأبيات التي تسبقه بهذا البيت الذي تمرد فيه وأبرز شجاعته في التعريف بنفسه .

القصيدة طويلة وبها الكثير مما يمكن نستشفه عن ظاهرة الشعر ، الشاعر ، وبعودتنا لجدلية فرويد ، نجد أن نزار قباني بهذه القصيدة بالذات يقول :

بأعراقي الحُمْرِ إمرأةٌ

تسير معي في مطاوي الرِّدا
،


تفحُّ وتنفخُ في أعظمي

فتجعل من رئتي موقدا
،


هو الجنس أحملُ في جوهري

هيولاه ما شاطىء المبتدا
،


بتركيب جسمي جوع ٌ يحنُّ

لأخر....جوعٌ يمد اليدا
،


أتحسب أنكَ غيري ضللت َ
فإن لنا العنصر الأوحدا


جمالكَ مني ... فلولاي لم تكُ

شيئا ولولاي لم  توجدا
،
ولولاي ما انفتحت وردةٌ

ولا فقع الثدي أو عربدا
،


صنعتُكَ من أضلعي لا تكن

جحوداً لصنعي ولا ملحدا

تفتح هذه الأبيات تفسير الشاعر في معناه الغريزي ، وهنا القول لشاعر كبير يعبّر به عن نفسه بوضوح ، بعيدًا عن حالة الزهد والأستذة عند الفقهاء الشعراء ، فنزار كشف لنا عن روح الشاعر عموما وليس عنه فقط ، وهو بهذا يحدثنا عن العاطفة ، التي أراد إبراز الرغبة في تكوينها ، ونحد نرجسية الشاعر بالإضافة لأنوثته ، فليست المرأة التي يقول عنها بعروقه الحُمر (شرايينه) :
بأعراقي الحُمْر .. امراةْ
تسير معي في مطاوي الرِدا

ليست سوى أنوثة الشعر التي تعكس عليه في تعابيره ، وليس بالضرورة أن يكون مقصده من يعشقهن من النساء، بل هي عاطفته (وما بها من رغبة) .

وللنص تأملات مختلفة ، وأسعد بقراءتكم وبإضافاتكم .
(هذه بذرة مقالة مطولة وتفصيلية مستقبلا) .

347501 1930438204

 


   
اقتباس
شارك:

🕶 كن معنا !

الإبداع ثقافة وتواصل . اشترك للحصول على أحدث منشوراتنا الأسبوعية في صندوق الوارد الخاص بك. لن نرسل لك بريد عشوائي هذا وعد. أعرف المزيد في سياسة الخصوصية الخاصة بنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض