نثرآراء أدبيةالآراء

الجسدي والشخصي بالشعر ..

image_pdfimage_print

قابليتك للتوهم وهي صفة شعرية أصيلة تجعلك في ارتياب من نفسك في حين من يستحق الارتياب هو شخص خاطئ بجوارك ، وقد تدفعك لكراهية ذاتك وأنت تقصد انزعاجك من الأرضية المتسخة هناك ، وهكذا تعمل الانعكاسات وتقييماتك لوجودك بالتزامن مع المحيط بإثارة الشعري الكامن بك إن كنت بشاعرية جيدة ، لكنها تختلف عما ينبغي أن يكون المنطق وما على المرء الشعور به عند أولئك العقلاء الجامدين ، ولهذا فإن الشاعرية أصدق من العقل في تبيان ذاتنا الخفية وتكويناتنا السرية فهي الأقرب لأعماقنا وما يدور بها من عواصف نفسية عارمة حيث ترى الذاتُ العالمَ كله “هي” ، وأي مثير بالخارج حسنًا أو قبيحًا إنما تبصره فيها هي وتقوم الشاعرية بإيصال هذه الرسالة العميقة لأولئك الموهوبين بها ليستمعوا جيدًا لذواتهم وينطلقون منها للغة التي وجب أن تكون هي أيضًا بطريقة مبنية على “الشخصي جدًا” والجسدي أيضًا الذي علينا أن نمنحه الاعتبار في فهم العملية الشعرية وتراكيب الأساليب ومضمار التجارب.

إنني لا أُخفي إعجابي بشعر إيليا أبي ماضي ، فتجربته الشعرية ضخمة ومتنوعة ، وهي امتداد بالطبع لتجاربه وتقلباته بالحياة.
يقول إيليا :
إنْ أنت أبصرت الجمال ولم تَهِمْ
كنتَ امرءًا خشن الطباعِ ، بليدا 
،
وإذا طلبتَ مع الصبابة لذةً 
فلقد طلبت الضائع الموجودا

،
إن الشعر تواصل بين اضطرابين كبيرين ، اضطراب النفس واضطراب الحياة ، وإيليا بأبياته السابقة يجسد قلق المرء من سلوكياته ومن نظرته لما حوله ، فالشاعر حين يخاطب المتلقي المجهول هو ضمنيًا في بعض الأحوال أو بغالبها مخاطبٌ لنفسه بمراجعتها ولومها وتقييم الذي بدر منه أو ما ينبغي أن يكون ، فيبرر أو يدافع ويهاجم ، ونلاحظ أن البيت الثاني يصب أيضًا باتجاه تفسير الظاهرة بوصفها ، ولو لم يكن العشق/الحب/الصبابة مثيرةً للاضطراب والحيرة لما كانت من أغراض الشعر ، قصةً ووصفًا ، وإبداء الرأي حولها بلغة شاعرية يبرز الجانب الفكري والشخصي للشاعر ، وهذا الجانب يحتاج إلى تجربة، وعقل يفسر ويلاحظ، ولغة .
إن ما قاله إيليا عن اللذة وكونها حاضرة غائبة ، في الشوق ، والشوق يشير للغرام/العشق عمومًا ، هو إبداء للرأي وإبراز للتجربة والموقف ، والبيت أيضًا له هندسته داخل القصيدة فهو امتداد لسياق النص ، 
والسياق بالشعر هو مسرح الأسلوب الشخصي ، الشاعر مجردًا من جسده ومركَّزًا بالنص أو كما قيل ” الأسلوب هو الإنسان” لكن هذا التجريد لا يعني نفي الجسد بل إعادة ظهوره بطريقة أخرى تناسب العالم الجديد المتمثل بالإيقاع واللغة والمعاني.

لقد أدركنا أن أعمق الأفكار وأشدها تأثيرا على الطبيعة الشعرية والذوقية هي الأفكار التي تأتي من التجربة والاحتكاك لا من القراءة والتصور، علمًا بأن الفكر بتراكماته صانع للأسلوب الذي بالإضافة لتركيبته الفكرية يكون معتمدًا أيضًا على الشعور الجمالي أي الشعور الحسي العالي والحيوية الدافعة للذة ، وأما الجانب التشكيلي اللغوي فهو مسألة اطلاع ودراسة لا أكثر، أي أن التجارب هي أحد الأسس التي يستند عليها الشعر ، وهي الفرق بين النصوص بالإضافة للجسدي الذي يأتي أولًا وأقصد به طاقة الحياة التي ينتجها الجسد وشاعريته ، والشاهد على المسألة الجسدية المعري الذي كان بقمة كآبته ولعل الكثير نظر لها مسألة اجتماعية في تكوينها خاصة وهو القائل :
أراني بالثلاثة من سجوني 
فلا تسأل عن الخبر النبيثِ
،
لفقدي ناظري ولزوم بيتي 
وكون النفس بالجسد الخبيثِ

،،
لكن العمى بحد ذاته هو عطب جسدي وكل ما يلحق به من معاناة اجتماعية ونفسية إنما أساسه ذاك العطب ، ولعل هناك ما هو أكبر من العمى عند المعري لأن بشار بن برد مثلًا كان أعمى ولكنه لم يكن متشائما أو كئيبًا كحال المعري على أنه ينبغي التمييز بين ما هو نصي وما هو شخصي فثمة اختلاف بالطبع فلربما كان ذلك نمطا شعريا يختلف قليلا أو كثيرا عن واقع الشاعر لكن المعري وأخباره تشير لعزلته فترات من عمره وميله للتشاؤم الذي يتضح أن لامتناعه عن أكل اللحوم دور به ، مما يعني نقص فيتامين بي١٢ الذي تكون أهم مظاهره الكآبة والإرهاق وإن أعظم المعضلات الاجتماعية لابد أن يكون للجسد دور في نشوئها أو حتى تضخمها أو تلاشيها ، وهذا الاختلاف الجسدي مؤثر بردود أفعالنا ولا يصح برأيي إهماله والحديث عن الشأن الاجتماعي والنفسي بعيدًا عنه وبالنسبة للمعري يظهر أن العمى والنزعة النباتية بالتغذية تسببا عليه في الكآبة وفاقما ظروفه الاجتماعية ، هذا بالإضافة لجملة أمراض ناشئة من سوء التغذية تلك، وبذلك كان شعر المعري واتجاهه معتمدًا على المعضلة الجسدية لديه أولًا ثم بعد ذلك تأتي بقية العوامل.

لقد كان ومازال الشخصي ، الشخصي جدًا هو معظم الشاعرية بدءًا بالجسد ومرورًا  ، بالمشاعر والمواقف التي تنتابنا وانفعالاتنا ، وإن التشابه الذي يجمعنا بالشكل والصورة والانفعال ليس تربة الشعر ولا محل نشوئه بل الاختلاف الذي يمثله قولي “الشخصي جدًا ” حيث يدفعنا لتحويله نصًا شعريًا يكشف لنا عن خلفياتنا الثقافية وطرق تفكيرنا وتجاربنا الخاصة بالماضي وموقفنا منها كل منا على حدى ، فهذا شاعر يكتب موقفه وانفعاله بخطاب مباشر ، وآخر من خلال قصة ، وهذا يفضل الصور الخيالية وذاك يفضل صناعة المشهد التمثيلي ، وهكذا ، لأننا نحكّم أمرين ، شخصيتنا مع الحدث ، بناءً على الجسدي والعقلي ، وشخصيتنا مع النص الذي يأتي فيه ما تراكم من طرق النصوص وتراكيبها التي صنعها التاريخ الأدبي “التناص”، مع بصمة خاصة تنشأ مع الوقت تحاول الاقتراب أكثر وأكثر من الشخصي جدًا بنا وهذا كله يصب بأن المهارات الشعرية المتقدمة وعلى رأسها صناعة القصة والحوار ليست مكتسبة من تعلّمها بنصوص الآخرين وتشرّبها ثم اعتمادها فقط بل أيضًا من الذاكرة والتنوع الذي مر به الشاعر ووفرة القصص والأحداث بحياته وتقلبات الزمان به وما يعمّق علاقته مع ذاته ويتجاوز فيه الرادع العقلي ، ونحن إذ نتحدث عن الشاعرية فإننا نشير للعاطفي الجميل والإبداعي الذي يحركنا بالنص وإن كان هذا الأمر نسبيا لكنه أيضًا فيه نقاط متفق عليها فالحداثة وتسليط الضوء على حدث بأسلوب مغاير له مكانته النفسية بين المهتمين بالأدب وهذا ما لا تجود به التعاليم والدراسات بل الشخصي الخاص ، أقصد الذاتي الذي تصح فيه الأنا، وها هو  إيليا أبو ماضي مثلًا حيث ثقافته وتنوع تجاربه وغربته وانتقاله بين الديار أهّله لارتفاع شاعريته للمستوى الذي نقل به موقفه من الحسد والبخل والكبر لمستوى قصصي نجده في نصه : 
التينة الحمقاء ، ومطلع القصيدة :
وتينةٍ غضة الأفنان باسقةٍ
قالت لأترابها والصيف يحتضرُ
،
بئس القضاء الذي في الأرض أوجدني
عندي الجمال وغيري عنده النظرُ
 
،


القصصية بالنص السابق إن كانت من صناعته تماما أو من التراث القصصي ، هي مهارة لإيليا وارتفاع بشاعريته وتأكيد على ثقافته إما بالإبداع أو بالتوظيف.
وأقولها مرة أخرى ، إن كل امرئ منا سيواجه غالبًا المشاعر والإشكالات الحياتية ذاتها ، لكنها تختلف بحجم حدة التجربة وكميتها وموقفنا منها ، ومع ذلك فإن الشعر لا يصح عليه أن يكون قوانين، نتفق عليها بل جاء ليبرز الموقف الشخصي من الأشياء والأحداث لأنه مبني على الاختلاف ونحن إذ ، نقرأ شعر فلان فلأننا ضمنيًا نبحث عن تجربته وموقفه والجمال الذي اصطاده بطريقته هو ، وأنا إذ أقرأ شعر إيليا ، أفهم تقلبات حياته هو ، قصص الحب التي مر بها أو موقفه منها ، الأصدقاء ، الأحداث ، غربته ، فقره ، حكمته ، عقيدته السياسية ، ميوله ، التاريخ الذي مر فيه ، وهذا كله ما يفترض أن نجده عند معظم الشعراء الجيدين ،

لكن ماذا عن شعراء اليوميات ؟ 
إن اليوميات برأيي لا يصح عليها سوى النثر ، لأنها ستشد قائلها للضحالة شعرًا بسبب قيود الموسيقى التي تتطلب طربية عالية وثراء بالإلهام ، وهو ما لا يمكن ضمان توفره يوميًا ، بالإضافة لكون الأحداث اليومية يصح عليها التكرار غالبًا مما تحفز البناء على المتشابه والمشترك بيننا لا الشخصي والمتفرد ، وإذا ما سألتني عن شعراء المكاتب ، المحبوسون أساتذة ، فسأجيبك بأن انخفاض شاعريتهم بالأسلوب نابع من انخفاض التجربة الحية أو خلطهم الذوق المكتسب من التجربة الجيدة بالذوق المقيد بالنظريات التي يدرسونها ، فيحاول المرء منهم إبداء رأيه بظاهرة من ظواهر الحياة بالشعر فيتوه ونتوه معه
وقد يكون لانعدام الطبيعة دور رئيسي بذلك ، فالشعر ، قبل أن يكون على الألسنة ، كانت الطبيعة تستحث أذهاننا للحديث عنها ، وتذكيرنا بها ، الطبيعة ، بتضاريسها وكائناتها ، منبع اللغة والحس والفكرة ، والانقطاع عنها أو محاربتها ، له عقوبة كبيرة ، متمثلةً بالرداءة وانخفاض الشعور الحيوي ، والاختناق الذي يظهر ببرود الجملة ، وهذا كله يصب بأننا من خلال الأسلوب والتراكيب المستخدمة والاستناد على الأشياء نفهم تجربة الشاعر وخلفيته الثقافية ، لننظر مثلًا للطبيعة بشعر إيليا ، لقد نبغ شعره بها لأنه اللبناني الذي عاش بعصر ما قبل الهيمنة الكبرى للشاشات والآلات وعاش بمصر وأمريكا وأبصر برحيله ورحلاته صفاتها وتنوعها وتقلباتها وهي التي كانت بمركز مرموق في عصره ، ومن ثم كانت تجربته الخاصة طريقته بالظهور شعرًا .
يقول بقصيدته الأسرار معبرًا عن إعجابه الشديد بالطبيعة وجمالها :
يا ليتني لص لأسرق في الضحى
سر اللطافة في النسيم الساري 
،
وأجس مؤتلق الجمال بإصبعي 
في زرقة الأفق الجميل العاري 
،
ويبين لي كُنْهُ المهابة في الربى
والسر في جذل الغدير الجاري

،
يستمر إيليا بأبياته التي ترصد ما يعجبه وأبهره بالطبيعة ، وهذه القصيدة من القصائد العذبة لإيليا وقد برز الشخصي عنده كثيرًا بها ، ولا أقصد المعاني التي قد تكون عند غيره أيضًا بل علاقتها هي به من خلال ما أثاره وأبرز فيه الأسلوب الذي اختاره مناسبًا لها ، إذ أنها قادمة من تاريخه الخاص ، وهو بهذا النص يعبر عنه فيها ، كما أن له قصائد سياسية ضد العثمانيين عبر عن مواقفه منهم ، أي عن شخصه هو ، وما يدور حقًا في ذاته ، لا ذات غيره .

ينبغي علي أن أذكّر بعد هذه الشواهد المختارة بالفكرة الرئيسية للمقالة ، وهي أن الشعر أي معناه الأسمى وبروزه الواضح لا يكون إلا من خلال الشخصي جدًا الذي لم يكن اعتمد بدءًا على الجسدي ، وهذا الشخصي إنما هو الاختلاف والفرادة التي يلقاها المرء بذاته ، هي تلك الأنا المميزة لكل امرئ منا ، وقد يظن بعضنا أن الشعر مُنِح جمالا بمدى التزامه بقوانين الوزن والبلاغة ، فيلتزم الشاعر بالقاعدة اللغوية ، ويتخلى كثيرا عما يجيش بصدره من مشاعر وتفضيلات شخصية بسبب الذوق الجماعي المشترك الذي شكّله عقلية اللغويين  ، ليحدد كمية الجمال المتدفق بانحيازه لغير نفسه وذوقه الخاص وهذا كله خطأ وسيتسبب بالرداءة وهو للأسف يعبر أيضًا عن شخصية مهزوزة وذائبة بالآخرين ، لأن الجمال هو صرف النظر عن القواعد بتوغل مفاجئ للذة الانطلاق وجمال النص قادم من تكوينات عقلية نفسية ، نالها الشاعر من تجاربه وعلاقاته مع الطبيعة والناس والظروف وكيف عالجها وتعامل معها ، وأما اللغة والوزن فهما قالب الظهور ومجرى الجمال والقبح ، والشاعر يضخ ذاته في نصه وبالتالي فإن ظهور الجمال  يتشكل من ارتفاع بالذوق والطربية والرؤية التي تقود الشاعر من أعماقه لإبصار الكون والأحداث وقراءة وجوده في العالم 
وهذا هو النبع هو المهم في ضخ وتكوين الجمال ، وتلك الانطلاقية في نظم الشعر تأتي بتفوق ذهن الشاعر على الواجب اللغوي الذي تحول بفعل الإبداعية/العبقرية لأمر متفق عليه للدرجة التي لا يعي بها الشاعر وجوده ولا يكترث له ، فقد انتقل الشاعر للحظة جمالية أبصرها ويريد نسجها دون قلق القيد وما أن يصطادها يداهمه المشترك والمتشابه الذي تمثله اللغة وقواعدها ثم يعود ليصطاد الجديد وهكذا ، قد يفسر لنا ما سبق موجات الجمال غير الثابته بالنص الواحد ، وتلك اللحظة التي أبرزت لنا ، وعينا بالجمال بكونه انطلاقا من قيود عميقة لا نعيها تمثل المشتركات بيننا ونحن حين ننحاز في ذواتنا لما يخصنا جدًا إنما نمارس الإبداع واصطياد الجمال ونعيش الشعر وقوافيه.

عصام مطير

الرسمة الملحقة للفنان الهولندي Joos de Momper

image_pdfimage_print
0 0 votes
تقييم الأعضاء

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض