دروس بالشعر

السؤال بالشعر ..

DiZaUMbWkAE-t4sأهم ما يميز العقل الفيلسوف قدرته على تبطئة السؤال وتفكيكه لعشرات أو مئات الأسئلة الصغيرة التي تتلقى بدورها محاولات أفضل للإجابة ،
فالسؤال يتطلب التفكير والتفكير بالتفكير لعل إجابةً
خلف كل هذه المحاولات مازالت قادرة على تفسير الغموض ، أو إبراز وتبيان الأسباب ، أو الكيفيات وطريقة العمل والنتائج وأشكالها …
هكذا يجري السؤال على ألسنتنا ، رغبةً ملحّةً للمعرفة ، سهمًا متجهًا لهدف بعينه ،
إن كان بالفلسفة أو بالعلم أو حتى بأحاديثنا اليومية ،
أما في الشعر ، يتفاقم وجود السؤال ليكون أضخم حتى من هويته التي تطلب المعرفة ، يتفاقم حتى تغدو الإجابة ليست مهمة في ذاتها بل بكونها لا تأتي …
وإذا أتت فهي ، من الوجدان ، معرفة وجدانية ، أفهمها وأعيها لكني لا أستطيع كتابتها لأنها مجزّءة وعميقة .

يقول أمل دنقل في قصيدته شجوية على البحر المتقارب :
لماذا يتابِعُني أينما سِرتُ صوتُ الكمانْ؟
أسافرُ في القَاطراتِ العتيقة،
أرفعُ صوتي ليطغي على ضجَّةِ العَجلاتِ
وأغفو على نَبَضاتِ القِطارِ الحديديَّةِ القلبِ
تهدُرُ مثل الطَّواحين
لكنَّها بغتةً..
تتباعدُ شيئاً فشيئًا..
ويصحو نِداءُ الكَمان!
،

هذا المستوى من المعنى لوجود السؤال ، ومقام الإجابة،
هو المستوى المتقدم في الشعر الذي يتجاوز
شعر الحوار المعتاد (السؤال المباشر أو الخيالي ،والإجابة المباشرة أو الخيالية)
كقول بشار بن برد :
لا تعذلوني فإنّي من تذكرها,
نشوانُ هل يعذل الصاحونَ نشوانا؟
،
حيث السؤال أخذ شكل الاحتجاج والتبرير بظهوره الاستنكاري ، وهذا غالبًا شأن السؤال بالعصور العربية القديمة ، مع بعض الوجود للأسئلة
الحوارية التي يراد منها الاسترسال بالنص وحكاية الحدث أو تأريخه ، (كما سنقرأ بالفقرات القادمة من المقال حيث يتباين قيمة السؤال بالنص الشعري العربي
وفق زمان الشاعر ، حيث العهود العربية القديمة كان السؤال بها بقيمة أقل شاعرية مقارنة بالعصر الحديث).
إن السؤال في الشعر
يكبر بحجم شاعريته بقدر ابتعاده عن منهج الحوارات والأحاديث اليومية او العلمية التي تتطلب الإجابات القاتلة القطعية ،
مع أن السؤال منذ ولادته بلغاتنا كان محاولة شعورية للتعبير عن مأزق المجهول والخوف والقلق ،لقد كان فيما يبدو أول قصيدة شعر بدائية على لسان أول مغامر شغوف في فهم العالم والوجود لكن الشاعرية تذوي بالإعادة والتكرار لأن
أساسها الابتعاد عن القطعية والاجترار والتبلد وهذا ما تفعله دومًا في أي مجال يصل لمعرفة جامدة أو شبه قطعية اعتادت عليها الأذهان وتكررت كثيرًا على ألسنتنا .

حين يبدأ الشاعر مطلع قصيدته بسؤال
فإنه يحاول الانفجار منذ البداية شد الانتباه وتوجيه النص وفق ما يقتضيه السؤال من أحوال شعرية وأسلوبية ،
وقد تكون قيمة السؤال أيضًا مبنية على نوع الأداة الاستفهامية المستخدمة (أين ، هل ، لماذا ، كيف…) وما تحدثه من توجيه لذهن المتلقي وما تقدمه من تركيز شاعري وارتكاز يعتمده الشاعر في نصه
ولربما

يحاول به أن يكون :
مواجهة للحيرة أو إعلانًا عن ثبات أو محاولة للتعمق في الحدث أو الظرف أو القصة المحكية…
ليكون بالنسبة للمتلقي :
دعوة متفجرة وملحّة ، ومستجابة منه للتوغل في النص ،
وليغدو السؤال في النص ذاته :
افتتاحًا لحفلة المعنى كما بقصيدة محمود درويش التي كان مطلعها :
إلى أين تأخذني يا أبي؟
إلى جهة الريح يا ولدي …
،
أو الاستشهاد بصيغة السؤال وتوزيع الأسئلة لرفع الشاعرية
كقول المتنبي في رثاء فاتك أمير الفيوم :
أينَ الذي الهَرَمانِ مِنْ بُنْيَانِهِ،
ما قَوْمُهُ، ما يَوْمُهُ، ما المصرَعُ؟
،
أو تبيانًا لمعنى أراد الشعر إيصاله لاستمرار القصة وأحداثها
كقول كثير عزة بقصيدته خليليَّ هذا ربع عزةَ فاعقلا:
فإن سأَلَ الوَاشُونَ فيمَ صرمْتَها,
فقُل نفسُ حرٍّ سُلِّيت فَتَسلَّتِ.
،

أو أساسًا للتنوع والتوزيع الشعري
كقول نزار قباني :
قولي لي كيف سأنقذ نفسي من أشواقي وأحزاني ؟
قولي لي ماذا أفعل فيك أنا في حالة إدمان؟
قولي لي ما الحلّ فأشواقي وصلت لحدود الهذيان؟
قاتلتي ترقص حافية القدمين بمدخل شرياني
من أين أتيت؟ وكيف أتيت؟ وكيف عصفت بوجداني؟
،،

أو مسرحًا لكل الأحداث التي يناقشها النص ويحاول إيصالها إلينا كقول أمل دنقل :
لماذا يُتابِعُني أينما سِرتُ صوتُ الكَمانْ؟

ثم إنّ السؤال ، بمثل تلك الصفات ،
يكون للموسيقى :
اقترابًا كبيرًا منها .
إننا مع التأمل والاستماع لشجوية الكمان وشاعرها أمل دنقل

نرى كيف تحول السؤال لإجابة كبيرة ، عملية انزياح كبيرة في هوية السؤال أحدثها الشعر .
وبعد الامتزاج بهذا النص ، والانتهاء من سماعه يظل السؤال لماذا الكمان ؟ صامدًا متجاوزًا رغبة الإجابة …

،

عصام مطير البلوي

الرسمة الملحقة للرسام الروسي المعاصر Stanislav Plutenko

5 1 vote
تقييم الأعضاء

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Rkayz

مجانى
عرض