قراءاتدروس بالشعر

تكوين الصورة الشعرية

img_3081الشعر توظيف أشياء الكون لأشياء الشاعر المعنوية
أي أن النص الشعري يقود حملة مقدسة لتحويل وتغيير مسار وسياق وعمق الأشياء ليصل إلى ذات الشاعر وإرادته ، وهو بهذا يعكس لنا بمعايير التصوير وروابط المعاني فيما بينها على وجه الحقيقة ، ما بالشاعر من عواطف وتقديرات وصفات ذهنية وشخصية .
يميل الشاعر نحو الأقرب لذهنه من معاني وألفاظ ، ويقوم بتشكيل صوره ودلالاتها ليعكس ذاته بالنهاية ، طريقة تفكيره ، ذاكرته ، خلاصة انفعالاته .
ويتطور أسلوبه بالنص بداية من خلال تعمقه اللغوي ليصل إلى الانعكاس الأقرب لذاته ،
ثم بعد ذلك يتطور أسلوبه بالتوازي مع تطور شخصيته ، وأفكاره وخبرته بالحياة .

في تركيب الصورة ، يبرز الامتثال للنمط المعتاد في التعبير عن الشعور بالمتخيل ، فالشاعر يُعمل ذهنه بذاكرته لاستخلاص الروابط بين المكونات التي تقترب من وصف شعوره .
يقدم أو يؤخر التصوير ، يستعمل الكناية أو الاستعارة ، بخبر أو بتساؤل أو بمشهد ، كل ذلك بأسلوبية الاعتياد على التعبير لديه ونمط السائد الشعري بزمنه إن لم يكن صاحب طريقة خاصة .

في مطلع قصيدة الشريف الرضي:
لمن الحدوج تهزّهُنّ الأنيُقُ..
‏والركبُ يطفو في السراب ويغرقُ ؟⚡️
،
نجد المتخيل بالتساؤل شاعريّا
جاءت شاعريته من المشهد حيث معنى المفاجأة بالرحيل واستنكار ذلك، والشك بكون المحبوب بينهم ،
‏والصورة الخيالية العظيمة في البعد وتمثيله بمشهد القافلة التي تطفو وتغرق بالسراب البعيد،
‏وهو انعكاس لما في الشاعر من عذاب دفعه نحو هذا التصوير أو هذا الاختيار للمشهد لاستخدامه شعرًا.
‏والشاعرية العميقة جدا تمثلت بمعنى التخاطر ،
‏فالقوافل كثيرة التي تأخذ بالابتعاد ، لكن شعور العاشق أعلى .
‏فالمشهد حين تمثيله مع الشاعر فإنه ذلك الذي وخزَه قلبه بأن معشوقته في تلك الرِّكَاب البعيدة مما جعله يقول سؤاله شعرًا .
‏والتخاطر بين العشاق معروف ومعلوم ،
وإذا تمعنا أكثر بالعلاقة بين السراب والغرق والطفو وما بالشاعر من تساؤل ، فإنها انعكاس لمعنى الشك والخوف ، الذي يظهر ويغيب ،
‏بأن معشوقته في ذلك الركب أم لا ؟
‏وهذا هو تكوين الصورة الخيالية من ناحية نفسية
‏فالمخاوف التي تطفو وتغرق في ذهن الشاعر هي ذاتها ذاك الركب الذي يطفو ويغرق
‏ولعل اختياره السراب ، يدل على رغبته بأن يكون خوفه من رحيلها كذبًا ووهمًا أي أنها لم ترحل،
‏وقد يكون
‏اختياره أيضًا بمعنى التعبير عن هذا الحب الذي لم يعد صادقا برحيلها المفاجئ
‏ولربما دلالة الركب والحدوج التي تهزهن الأنيقُ ، يشي بمعنى نفسي عند الشاعر
‏مفاده الضمني العميق أنها رحلت بلا رغبة منها ، فالأمر بالنهاية لأصحاب القافلة (أهلها) أو هكذا أراد القول …
‏والشعر من أسلوبه أن يمنح مساحة كبيرة للاحتمالات الضمنية لأنه رسالة مفتوحة للمدى …
‏والصورة الخيالية قبل تكوينها وتشكيل عناصرها في ذهن الشاعر ، هي معاني نفسية ورغبات وتمنيات ومخاوف ،
‏فالمشاعر هي التي تختار تشكيلات عناصرها اللفظية في الصور الخيالية وتراكيبها ويبرع الشاعر بالإصغاء لها مع نمو موهبته و”ذاكرته”.

حين يقول الجواهري :
كيف يسطيعُ رسمَ شَكلِ المسرّاتِ-
-نزيلٌ في غرفةٍ مثْلِ لَحْدِ
،
فهو يحكي لنا أنه يستمده من ذاكرته (تجاربه ، ظروفه ، رغباته ، جِراحه)

ويكمل الجواهري معناه :
قد وصفتُ الشَّقاءَ أروعَ وَصفٍ
من بلاءٍ وخبرةٍ مستَمَدِّ
،
وأرَيْتُ الناسَ الحياةَ جحيماً
قاذفاً أنْفُساً لطافاً بوقْدِ
،
فأروني رفاهةً ونعيماً
لأُريكم تصويرَ جنةِ خُلْدِ
،

وبما سبق يبيّن ويفسر الجواهري جانب الإبداع عنده في وصف المعاناة والشقاء لأنه جربها ويطالب بالنعيم ليصف السعادات ، لأنه لم يرها ليكتب عنها ويصورها بأجمل تصوير
وهذه النقطة المتمثلة (بالذاكرة) هي المحور الذي يشكّل عبقرية الشاعر في اتجاه محدد بنصوصه ، من حيث قدرته بالتعبير عن مواضيع هي جزء من تاريخه
وببساطة فإن الفرق يعرفه الشعراء حين ينظمون شعرهم ، فالمجالات والأوصاف والمعاني القريبة منهم ومن حياتهم وثقافتهم يبدعون بها بسلاسة
بعكس النظم في مجالات بعيدة عن ذاكرتهم وتجاربهم واهتمامهم ، فحينها سيكون النص باردًا والأوصاف أقل جودة مقارنة بما سبق .
إذًا فالتماسك بالأسلوب والشكل والاتجاه الذي يقوده الشاعر عبر نصوص كثيرة هو تماسك يقف خلفه (الذاكرة) و طريقة التفكير العامة الملازمة للشاعر
،
وهذا الجانب من الممكن للشاعر المبتدئ والمتقدم كذلك الانتباه له وتمرين نفسه على جوانب جديدة أو يهتم بما هو مهمل عنده ، ليبني التصاوير المتقدمة والمناسبة ،
فالصورة بالنهاية هي منتج لآلية مكتسبة من التجارب وذوق متراكم من الشعور والتمعن والإصغاء …
عصام مطير البلوي

الرسمة الملحقة للفنان الهنغاري janos Thorma تـ1937م

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض