قراءاتدروس بالشعر

مطلع القصيدة بالشعر الحر

IMG_4465[483]

منح الشعرُ الحر (التفعيلة) الشاعرَ إمكانية تقديم مطلع النص وفقراته الأولى بشكل “جديد وشيّق وشاعري” ،
إذ يقوم شعر التفعيلة على منح الشاعر إمكانية إطالة موسيقى الوزن
كيف شاء دون التزام بمدى موسيقي ثابت كما يحدث بشعر القصيدة العمودية ، وهذا الجانب من الإمكانيات بشعر التفعيلة أضاف للشاعر صفة الموسيقار بالتوزيع
وصفة القصصي بقبوله طول العبارات الشعرية وقصرها ، مع المحافظة على نغم الموسيقى الشعرية العربية .

مظفر النواب في نصه القدس عروس عروبتكم (وتريات ليلية)


شكّل مطلع القصيدة بتركيبة إبداعية في العرض ، إذ قدم جمل الحال على فعله ، وأسهب في وصف الأوضاع المحيطة ، كما يلي :

يقول : “في تلك الساعة من شهوات الليل
هذا المطلع الذي يدفعنا لمعرفة ماذا بالضبط في تلك الساعة يخص الشاعر ،
تأخر مظفر النواب عن إجابة سؤالنا ، ليمنح النص بعدًا شاعريًا بأنه
١.ابتعد عن الأسلوب الكلامي اليومي المعتاد ، فلم يذكر فعله بالضبط مباشرةً..
،
٢.أثار رغبتنا بمعرفة ماذا يريد
فبعد تلك البداية ، استمر بذكر الأحوال المحيطة:
وعصافير الشوكة الذهبية
تستجلي أمجاد ملوك العرب القدماء
وشجيرات البر تفيح بدفء مراهقة بدوية
يكتظ حليب اللوز
ويقطر من نهديها في الليل

وداخل الجملة الأخيرة وصف بدوية ومكانه منها “وأنا تحت النهدين إناء
،
ثم عاد الشاعر ليبرز لنا أنه للآن لم يقل لنا بالضبط فعله في تلك الساعة فكرر اللازمة الشعرية :
في تلك الساعة
ثم بدأ أيضًا يصفها ويفسرها بقوله “حيث تكون الأشياء
بكاءً مطلق

ثم قال لنا :
كنت على الناقة مغمورًا بنجوم الليل الأبدية
،
أي أن كل تلك الأحوال المحيطة التي ذكرها الشاعر كانت مزامنة للوقت الذي كان به على الناقة .
فالنص بلغة الكلام اليومي:
كنت على الناقة مغمورا بنجوم الليل الأبدية في تلك الساعة من شهوات الليل وعصافير … وشجيرات البر…

هذا التقديم أو التأخير ، منح المطلع شاعرية التشويق ،
وقد تفوق مظفر النواب في ذلك أيضًا من جهة التوزيع الشعري ،
فالفقرة الأولى “في تلك الساعة من شهوات الليل ” أطال التمدد المحيط …
وفي الفقرة الثانية “في تلك الساعة حيث” ، كان مختصرًا ليمنح توزيع ثنائي (إسهاب ، واقتضاب)…

المطلع أيضًا بهذا التركيب الإبداعي لم يعتمد عليه بل كان الشاعر يصفُّ الخيالات بتناسق والخطورة
التي واجهته كبيرة حيث يدرك الشاعر أن الإسهاب في ذكر الأحوال (جمل الحال) مع التقديم والتأخير السابق قد يتسبب برداءة تكرار اللفظ ،
لكن العجيب أنه ضبط ظهور كلمة “الليل” وتكرارها …

وقد برع أيضًا مظفر في توزيع البناء الموسيقي (الوزن) إذ أن طول وقصر كل سطر شعري (من وإلى القافية) كان توزيعًا متنوعًا بوجود قافية دخيلة (القاف) وقافيتين متناوبتين (الياء والهمزة) .

والمطلع كذلك يحمل عناصر مهمة مؤسسة لبقية نصه الطويل ،
فتحديدة لزمن معين بقوله (في تلك الساعة ) ثم الإسهاب في جمل الحال ، وتشويقنا يعني التمهيد لنا بأنه سيقول ما لا يقال في ثورته تلك ، وهو الذي حدث ببقية النص …
والليل أخذ معنى الضياع العربي والسُكر به بمعنى العقل هذه المرة..

واستخدامه كلمة “ملوك” مقدمة للذي سيقوله أيضًا بعد ذلك في نصه ،
وجاءت البدوية بمعنى الطبيعة والطهارة والنقاء والصدق ، وقد منحها شكلا رومانسيا بدفئها ونهديها ومكانه منهما ليقول أنه الأقرب من الحياة والحق والجمال …

وقد استخدم “الربع الخالي” ليشير إلى حجم الأهوال التي سيخوضها ، و”قطرة ماء” لتشير إلى صبره وجلده في قطع الصحاري …
وهذا التصوير الذي صوّره كان الهدف منه أيضًا أنه من عامة الناس ومستقل وليس محسوبًا إلا على نفسه وهمّته …
وكل جملة كتبها بالمطلع هذا المكون من فقرتين ، هي مفتاح وبداية فقط للذي سيقوله ببقية نصه الطويل ،

وبالشعر العربي وأقصد فن الشعر العربي لا النثر وخواطره ، يكتب الشاعر المتمكن نصه وهو يعي كل حركة فيه ، كل كلمة وإلى ماذا تشير ، واحتمالات السياق ، وارتباطات الفقرات
وأهدافه وأفكاره ،
وقد ساعده بذلك
“الوزن” أي موسيقى النظم الشعري التي يظن العاجزون عنها بأنها هامش لكونهم لا يجيدونها…

أي أن هذه الإمكانيات الهائلة بمطلع القصيدة السابقة
وما شرحته عنها ، لم يكن ليصل إليه مظفر النواب لولا “موسيقى الشعر” =”الأوزان الشعرية” ولو كان نثرًا لما وصل إلى ذلك فالشعر ليس خيالات فقط !
،

عصام مطير البلوي

الرسمة الملحقة للفنان الفرنسي Marcel Dyf تـ1985 م

0 0 votes
تقييم الأعضاء

🕶 كُن معنا!

ستصلك منشوراتنا كل أسبوع عن الجديد
والمثير بعالم الشعر والفلسفة

لن نرسل لك البريد العشوائي أو شارك عنوان بريدك الإلكتروني مطلقًا.
اقرأ المزيد في سياسة الخصوصية الخاصة بنا.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Rkayz

مجانى
عرض