التصفيق لغة المهزوم والتهميش كل الهزائم
هذه الشرفة لا قيمة لها حتى لو كانت مزخرفة بماء الذهب وبها كل أثداء الحياة..
إنك إذ تنظر إليها أيها الغريب التائه الهائم في تفاصيلها والعاجز عن الوصول إليها فإن نعالك المهتريء يكاد أن يرثي لحالك إذ ألهتك أطماعك عنه وهو الأولى بالاهتمام والاكتراث.
كما أننا مثلك تماماً لاهون في رغبة النظر وتائهون هائمون بما لا تطاله أيادينا ولا تحققه أمانينا ومشغولون متوارون عن قديمٍ تليدٍ يئن منا ويصطرخ ويزمجرُ بفضاءٍ بعيدٍ وماضٍ سحيقٍ كملاذٍ لكل خائبٍ ورداءٍ أثيمٍ لكل من يقتات عليه بين الخائبين.
إننا نخشى مواجهة واقعنا الأليم ونهيم بما حولنا لنجد موقعاً لأحلامنا نؤكد فيه عبقريتنا وشعاراتنا ومفرداتنا واجتهادتنا وكل ما نتصوره أو ما نتخيله عن ذواتنا التقية النقية، ونحن في هذا كسفينةٍ تدفعها الرياحُ أنّى شاءت وليس بقاءها مبحرةً إلا لأن البحر منشغلٌ بتمشيط أمواجه وليس لركاب تلك السفينة إلا تمنية أنفسهم برؤية يابسةٍ لا يعرفون الوصول إليها ولا يبذلون جهداً تاركين زمام بقائهم بيد بحرٍ غادرٍ وريحٍ لجوج ..
لقد تضاءلت ثقتهم بأنفسهم كما تضاءلت ثقتنا بأنفسنا فمن لا يزرع لا ينال ثماراً وتتآكل ذاته بدءاً وما الذات إلا إنجاز..
وأنّى لمجتمعٍ مكبلٍ بقيدٍ وجلادٍ وداءٍ أن يزرع أو ينتج أو ينجز وهو المعانق لذبوله والباحث عن خلاصه في قيده واللاجيء لجلاده لنجاته والطالبُ لدواءه من دائه ، فيا له من مجتمع يئن من تهميشه حتى أدمنه ..
إن التهميش تصفيق تضج به القاعة المملوءة بأكاذيب باعة الأوهام والخيالات وممولي العجز والانكسار وكثرما تجد تهميشاً وصوت قرع الطبول يصول ويجول بالميادين المنصاعة المنهارة المتبتلة الخاضعة لسلطان وجلال طبولٍ فارغةٍ لا تقدم إلا ما يجعل تلك الميادين تصفق تصفق بحرارةٍ
وإني لمؤمن جداً بأن التصفيق لغة المهزوم كما أن التهميش هو كل الهزائم.
إن الهوان والكرامة لأي مجتمعٍ وليدا الفكر السائد به ، فهنالك فكرٌ يرفع المجتمع إلى سماء الكرامة وهنالك فكرٌ يُغرقه في وحل الذل والهوان ، أي أن المجتمعات المهانة الذليلة المهمشة التي تعيش في مستنقع شهوات الأقوياء المقدسين المستبدين لم تكن كذلك إلا بسبب الفكر السائد بها وأن المجتمعات الحرة التي يعيش أفرادها بالكرامة والحقوق لم تكن كذلك إلا لأن فلسفتها فلسفة كريمة وفكرها حر مملوء بالكرامة والانسانية ..
إن الكرامة شجاعةٌ وعدلٌ ولا يمكن للكرامة أن تأتي من غيرهما وإن أولئك الذين يحدثوننا عن الحقوق والحريات على منابرٍ يقتاتون عليها إنما هم أولئك الذين يحاربون كل الحقوق والحريات على نفس تلك المنابر فالتاجر منهم لا يعرفُ إلا ربحه وربحه لا يكون إلا ببقاء الوضع كما هو عليه ، أليس التاجر دويهيةٌ تصفر منه الأنامل؟
فإذا ما حاولوا إظهار الوضع وكأنه تنافسٌ فإنه لا يعني حقاً ما يتبادر في ذهن القاريء بل يعني اصطداماً بين قوى داعمة للتأخر وقوى داعمة للتأخر بصيغةٍ أخرى..
أي أنه تنافس بين الخائبين لنيل عرش الهيمنة في مجتمع يتنفس خيبته ويعشق التأخر ويدافع عنه ويقدسه ويتغنى به كما تتغنى العصافير الحبيسة في أقفاصها ولعل صاحب تلك العصافير يجد تبريراً بأن إطلاق سراحها يعني موتاً وهلاكاً لها فيا لهذا المرهف الحساس الذي يمنعها لتبقى على قيد الحياة وتطرب أذناه وتكتحل وهو يشاهدها في لوحةٍ رسمها وفق ما يراه لا ما تراه الحبيسات،
وإن كل حبيس يود الفتك بكل الجدران حتى لو كان بعلمه أن الضياع ينتظره خارجه فالحياة أن تعرف المجهول لا أن تبقى على ما أنت عليه من معرفة..
إذن المجتمعات التي تعيش في بيئة كهذه إنما هي الشعوب الميتة التي لاتزال على قيد الحياة!
وأما ملائكية وجمال تغاريد تلك العصافير فلا يعدو كونه أرقى أنواع السباب والشتام والنفاق والكفر والجحود والألم موجهةً جميعها لكل حدب وصوب لعل في كل هذا إثباتاً على أنها مازالت على قيد الحياة فهو نواحٌ بطريقة أخرى كما أن التصفيق وقرع الطبول عويلٌ بشكل مختلف
أي أنك لن تجد كل هذه الأصوات بكل هذا التكرار اليومي إلا وهي آخر محاولات صاحبها لإثبات وجوده ..لإثبات أنه ليس شجرةً عاريةً خانعةً متضرعةً لشمسٍ تلوكها ورياحٍ تمضغها وأن وجوده مازال يعني شيئاً في هذا العالم رغم أنه يعاني من كل اليباس..
إنه يباسٌ يأكل الألوان ويهدر الثروات ويبدد الطاقات ويتباهى ويتفاخر على ما حوله برداء خصوبةٍ وينُوعٍ لا يسمن ولا يغني من جوع..
يخدعون أنفسهم بثيابهم ويكذبون لعل هذا يخفف عليهم ما هم فيه من ألمٍ الخزي وليس ثمة خزيٍ بهذا العالم كخزي من يملك يداً لا تقدر على إطعامه..
إن الكاذب حينما يكذب يريد الخلاص من المسؤولية وبراءة الذات وتحقيق الأغراض بشكل سريعٍ لا يؤذيه فهو جبانٌ لا يقدر على مواجهة أخطائه ويائسٌ لا يستطيع تصحيحها وكسولٌ لا يحب مشقةً وأحمقٌ يبرر رداءته بتاريخ أسلافه أو فعل أقرانه ومتفاخرٌ كطاووس..
إن الكاذب شقيٌّ متعجرفٌ لا يكترث إلا بما يأتيه عبر دناءته وخسته ولا يهتم إلا بما يثير لصوصيته فهي كل عبقريته وأمجاده..
لذلك فالمجتمعات الكاذبة المنافقة هي أكثر المجتمعات شقاوة ولصوصية ودناءةً ، والإبداع فيها يكون بابتكار ما يناسب تلك الرَداءات ، ولن يكون من الغريب في هذه المجتمعات أن تجد التاجر أو أحد أبنائه شاعراً ورساماً وفناناً وأديباً ومفكراً وفارساً وخيّالاً وحكيماً وبنفس الوقت لن تجد وبكل مرارة من يلعن هذا الكفر والجحود والشرك والقبح فلقد عاث الكذب في أحشائها حتى ظنته ديناً وعقلاً وحكمةً ورحمةً يتقون بها ضنك الحياة..
لو كان بيدي لدخلتُ على معابد الأكاذيب أستفرغ مراراتي حريقاً يلتهم المتبتلين وتبتلهم الأحمق اللعين هذا..
وإنّي إذ أفعل ذلك إنما أخلص الحياة من غباوتها ورداءتها أو أخلصها من رداءةٍ أو غباوةٍ قُذِفت برحمها…
.