قراءاتقراءات فلسفية

الأثر المزدوج ومعضلة العربة..

وردت ”معضلة العربة“،(Trolley Problem) في صورتها الأولى بمقالة للفيلسوفة البريطانية ”فيليبا فوت“ بعنوان “مشكلة الإجهاض ومبدأ الأثر المزدوج” عام 1967م1 حين تقدمت بعدة انتقادات عن قصور مبدأ الأثر المزدوج أو “التأثير المزدوج” في وضع معايير واضحة تفسر الأحكام التي نتخذها أمام الفعل الذي يحقق نتيجتين إحداهما حسنة والأخرى سيئة، وهذا المبدأ بالأساس يُستخدم تقليدياً في الفلسفة الأخلاقية، خاصة في السياق الكاثوليكي، ويشار إليه بالإنجليزية (Doctrine of Double Effect – DDE).

عبر مقالتنا هذه سنفهم سياق تطور فكرة معضلة العربة من خلال ورقة ”فليبا فوت“ ثم نشوء المصطلح وتطور مفهومه وتطبيقاته.

مبدأ الأثر المزدوج..

عادةً ما يساق هذا المبدأ بصفته امتدادًا للقديس ”توما الأكويني“ ورأيه في مسألة القتل دفاعًا عن النفس2، وعبر تأملات كاثوليكية متراكمةٍ خلال الزمان تطوّرَ مفهومًا عامًّا أُطلِقَ عليه مبدأ الأثر المزدوج، وهو قاعدةٌ في الأخلاق المعيارية تحاول تبرير أفعالٍ ينتج عنها أثران متلازمان:
أثر حسن مقصود، وأثر سيئ مُتوقَّع لكنه غير مقصود بوصفه هدفًا أو وسيلة.

ينقل لنا ”أليسون ماكلينتير“ Alison McIntyre في مدخل ”Doctrine of Double Effect“ بـموسوعة ستانفورد الفلسفية 3 عن“ مَـنْغـن (Mangan)“ صياغة الشروط الأربع كما توردها The New Catholic Encyclopedia لجواز الفعل الذي يترتب عليه نتيجتين إحداهما حسنة والأخرى سيئة كما يلي:

  1. أن يكون الفعل في ذاته (من حيث نوعه) حسنًا أوعلى الأقل غير محرَّم أخلاقيًا
    (The act itself must be good or at least indifferent).
  2. أن يقصد الفاعل الأثر الحسن وحده، وألا يقصد الأثر السيء
    الأثر السيئ يكون متوقَّعًا، مقبولًا كأثر جانبي، لكنه ليس جزءًا من الغاية ولا من الوسيلة.
  3. ألا يُحصَّل الأثر الحسن عن طريق الأثر السيء
    أي لا يكون الشرّ هو الوسيلة اللازمة لتحقيق الخير؛ بل يكون الشرّ ملازمًا للفعل، لا وسيلة له.
  4. وجود تناسب (Proportionality) كافٍ بين الأثر الحسن والأثر السيء
    بحيث يكون الخير المتحقِّق عظيمًا بما يبرّر قبول ذلك الشر الجانبي، مع السعي إلى تقليله قدر الإمكان.

ولنفهم هذا المبدأ بطريقة أوضح علينا شرحه بمثال كما شُرح بموسوعة ستانفورد ذاتها في المثال الذي تناول:

إن هذا المثال من الأمثلة المدرسية في شرح المبدأ، فالقاذفالإرهابي Terror bomber: يستهدف المدنيين عمدًا ليكسر معنويات العدو. نلاحظ هنا أن موت المدنيين مقصود كوسيلة لتحقيق هدفه السياسي/العسكري
أما القاذف التكتيكي أي المقاتل النظامي: فيستهدف هدفًا عسكريًا مشروعًا، إنه يعلم أن المدنيين القريبين سيموتون، لكنه لا يقصد قتلهم، بل يقصد تدمير الهدف العسكري فموتهم بمثل هذا الوضع أثر جانبي غير مقصود وليس وسيلة لتحقيق هدفه.
وفق مبدأ الأثر المزدوج: فعل القاذف التكتيكي قديُعدّمباحًا (إذا توفّر شرط التناسب، وتقليل الضرر، وغياب البديل) أما فعل القاذف الإرهابي فهو محرّم، لأنه يستعمل الشر (قتل الأبرياء) كوسيلة مباشرة لتحقيق غايته.

إن ظاهرة التترّس في الفقه الإسلامي حيث النقاش يدور حول متى يمكن قبول موت أبرياء كأثر جانبي غير مقصود في ذاته، ومتى يصبح استهدافهم مقصودًا أو وسيلة، قريب من هذه النقاشات لكن له تفاصيل وحيثيات أخرى.

ماذا لدى ”فليبّا فوت“ باتجاه المبدأ؟

قدمت ”فلبّا فوت“ ورقة نقدية للمبدأ سنة ١٩٦٧م بمقالتها بعنوان ”مشكلة الإجهاض ومبدأ الأثر المزدوج“ ، حيث تناقش فيها المثال الشهير عادة في شرح المبدأ، (الإجهاض) ومتى يجوز، فعله.
تبدأ ”فوت“ بتقديم الأمثلة كالتالي :

  1. المرأة حامل، والرحم سرطاني.
  2. الجراح يزيل الرحم لإنقاذ الأم، مع العلم أن الجنين سيموت حتمًا نتيجة العملية.
  3. الكاثوليك يقولون: هنا موت الجنين أثر جانبي متوقَّع وليس مقصودًا، فيجوز.
  1. امرأة في المخاض لن تنجو إلا إذا سُحِقَتْ جمجمة الجنين (craniotomy) ليسهل المرور أو ستموت الأم ويحيا المولود
  2. هنا موت الجنين يُعَدّ «مقصودًا مباشرة» فلا يجوز عندهم، ويسمحون بذلك بموت الأم

“فوت” تنقل غضب غير الكاثوليك من هذا التفريق عبر المبدأ الذي يظهر اعتماده على النية فقط، وتذكر أن المبدأ كما يُستَعمل في الإجهاض يبدو لهم :
(قطعة من السفسطة الكاملة)؛ لأن النتيجة النهائية في الحالتين لو أنقذنا الأم واحدة: موت جنين بريء، فلماذا ننقذها بالمثال الأول ولا ننقذها بالمثال الثاني؟

أحالت نقاشها ”فليبا فوت“ نحو فيلسوف القانون الاإنجليزي ”هربرت ليونيل“ ”H. L. A. Hart“ الذي قدّم انتقادا على الإشكال في حالة craniotomy (تهشيم الجمجمة/المثال الثاني) وبدأ يشرح أن موت الطفل في مثل هذه الحالة ليس وسيلة بالمعنى الدقيق، ومن الممكن إعادة قراءة المشهد بطريقة تجعل المبدأ يوافق على تهشيم جمجمة الجنين لإبقاء حياة الأم وفكرته بالتفصيل تقريبًا:

  • في عملية سحق الجمجمة، موت الطفل ليس ”وسيلة“ لإنقاذ الأم، بل نتيجة ملازمة للتوسيع الجسدي لقناة الولادة.
  • إذن يمكن تصنيف موت الجنين هناك أيضًا كأثر جانبي متوقَّع، لا «نية مباشرة»، وبذلك يَسْمح مبدأ الأثر المزدوج بالعملية.

هكذا يصبح المبدأ عبر انتقادات ”هربرت هارت“ له تطبيق مختلف بالحكم إذا التزمنا بتعريفات المبدأ بدقة بالاتساق مع هذه اللغة التأويلية، إذ سيسمح بتهشيم جمجمة الطفل لأن الموت هنا غير مقصود لذاته عبر هذا التأويل اللغوي الذي قدمه ”هارت“ بصفته انتقادًا يكشف ضعف المبدأ وقد اعتمدت ”فوت“ على هذا الانتقاد لإبراز قصور المبدأ ؛ حيث ترى إمكانية اللعب بالأوصاف مما يفرّغ المبدأ من معناه:

  • تقول إن الحدث الواحد يمكن أن نريده من زاوية ”الوصف“، ولا نريده من زاوية أخرى،
    لكن لا يمكن أن نعامله كحدثين منفصلين: واحد مقصود وآخر غير مقصود.
  • لا معنى أخلاقيًّا لأن تقول: ”أنا أقصد سحق الجمجمة، لكن لا أقصد موت الطفل“؛ لأن سحق الجمجمة وموت الطفل متداخلا نسببيًا لدرجة يستحيل معها فصل «النية» عن النتيجة.

لتوضيح سخافة هذا النوع من التمييز المبني على ”النية وهل هو وسيلة أم نتيجة جانبية“، تستعمل مثال الرجل السمين العالق في فوهة الكهف:

  • مستكشفون عالقون في كهف، والمخرج مسدود برجل سمين علِق في الفتحة.
  • معهم قطعة ديناميت؛ إن فجّروها خرجوا هم (وربما خرج هو معهم في إحدى الصيغ)، أو يموتون جميعًا غرقًا إن لم يفعلوا.
  • إذا قالوا: «لم نُرِد قتله، نحن فقط أردنا أن نُفجِّره إلى قطع صغيرة، أو أن نخرجه من الكهف» فهذا بالضبط، في رأي فوت، نفس التلاعب باللغة الذي كشف هارت إمكانية حدوثه عند تطبيق المبدأ.

    إذن:

نقد ”فوت“ هنا موجَّه إلى قابلية المبدأ للتلاعب عبر إعادة الوصف، يمكنك دائمًا أن تغيّر وصف الفعل لتدّعي أنّ الضرر ليس «مقصودًا»، بينما في الواقع لتستطيع تحقيق هدفك لا بد من هذا الضرر بالذات، أي إذا كانت النتيجة “ب” (موت الجنين) قريبة جداً وملازمة للفعل “أ” (سحق الجمجمة)، فإن القول “أنا نويت أ ولم أنوِ ب” يصبح لغواً فارغاً هذا ما يجعل مثال “الرجل السمين في الكهف” حاسماً؛ لأن تفجيره لتوسيع الفتحة هو قتله، ولا يمكن فصل النية هنا.

تقول “فليبّا فوت” في مقالتها:

”افترض أن قاضياً أو قاضي صلح يواجه مثيري شغب يطالبون بإيجاد مذنب لجريمة معينة ويهددون خلاف ذلك بالانتقام الدموي من قسم معين من المجتمع.
 المذنب الحقيقي غير معروف، يرى القاضي نفسه قادراً على منع الدماء فقط من خلال تلفيق تهمة لشخص بريء وإعدامه،

 بجانب هذا المثال يوضع آخر حيث يقرر طيار طائرته على وشك التحطم ما إذا كان سيوجهها من منطقة أكثر إلى أقل سكاناً لجعل التشابه أقرب ما يمكن،
قد نفترض بدلاً من ذلك أنه سائق عربة خارج عن السيطرة، لا يستطيع إلا تحويل مساره من سكة ضيقة إلى أخرى، خمسة رجال يعملون على سكة واحدة ورجل واحد على الأخرى،أي شخص على السكة التي يدخلها محكوم عليه بالموت.

في حالة الشغب، الغوغاء لديهم خمسة رهائن، لذا في كلا الحالتين يُفترض أن المقايضة هي حياة رجل واحد مقابل حياة خمسة.
 السؤال هو لماذا نقول، دون تردد، إن السائق يجب أن يوجه نحو السكة الأقل ازدحاماً، بينما يرعب معظمنا فكرة أن يتم تلفيق التهمة للرجل البريء. قد يُقترح أن السمة الخاصة للحالة الأخيرة هي أنها تنطوي على فساد العدالة، وهذا بالطبع مهم جداً. لكن إذا أزلنا هذه السمة الخاصة، نفترض أن فرداً خاصاً سيقوم بقتل شخص بريء ويوهم به كالمجرم، فإننا لا نزال نشعر بالفزع من الفكرة. مبدأ الأثر المزدوج يقدم لنا مخرجاً من الصعوبة، مصراً على أن شيئاً أن توجه نحو شخص متوقعاً أن تقتله وشيئاً آخر أن تهدف إلى موته كجزء من خطتك“

 المقالة ضربت بها الفيلسوفة عدة أمثلة كما نرى من التناقضات في أحكامنا وقد توصلت إلى أن مبدأ الآثر المزدوج الذي يرى تبرير أفعال تؤدي إلى ضرر متوقع لكنه غير متعمد، لا يفسر لنا بالضبط الظاهرة ويؤدي الى نتائج سفسطائية، بسبب تركيزنا على ”النية“ وقد قدمت بديلا عن ذلك يعتمد على التمييز بين الواجبات السلبية والإيجابية أي البُنية الأخلاقية والحقوقية،وأما التمييز بين القصد المباشر والمنحرف (العرض الجانبي أو النتيجة الجانبية التي لم نقصدها) ” النية“ يلعب دوراً فرعياً تماماً في تحديد ما نقوله في هذه الحالات، أي أن الفكرة المركزية عند Foot:

بدل أن نتمسّك، كما يفعل المدافعون عن الأثر المزدوج، بالفارق بين “نية قتلٍ مباشرة” و“عمل له أثر جانبي سيئ”، علينا التركيز على:

• الفرق بين القتل و ترك الشخص يموت (doing vs allowing)؛
• الفرق بين الواجبات السلبية (ألا نقتل) والواجبات الإيجابية (أن ننقذ).
أي أن التمييز بين النية المباشرة والضمنية يلعب دورًا ثانويًا فقط، بينما التمييز بين تجنّب الإيذاء وتقديم العون مهمّ إلى حدّ بعيد.

إذن “الحل الأصح” عندها ليس تعديلًا تجميليًا لمبدأ الأثر المزدوج، بل استبدال مركز الثقل الأخلاقي من: نية الفاعل (يقصد/لا يقصد)، إلى: بنية الواجبات والحقوق في الموقف، هل نحن بصدد واجب سلبي (ألا نؤذي / ألا نقتل)؟
أم واجب إيجابي (أن ننقذ / نساعد)؟
وهل نحن نؤذي بأيدينا (doing harm) أم نسمح لضرر قائم أن يستمر (allowing harm)؟
وبهذا، تعتقد Foot أننا نستطيع رفض مبدأ الأثر المزدوج، منغيرأننُجبَر على تبنّي مواقف مرعبة من نوع: “اقتل واحدًا أو عذّبه متى كان ذلك يُنقذ خمسة.

تطبيقات لانتقادات ”فوت“…

لشرح صحة انتقاداتها علينا تطبيق وجهة نظرها بجعل البنية الحقوقية والأخلاقية هي مقياس دراسة الحكم بدلا من الحديث عن نية الفاعل، وهنا تطبيقات مباشرة :

مثال السائق والقاضي

1. السائق (runaway tram driver)

الحالة:

  • سائق ترام runaway يمكنه توجيه العربة:
    • إما أن تستمر نحو خمسة عمّال سيموتون،
    • أو يحوّلها إلى مسار فيه عامل واحد سيموت.

مؤيّدو مبدأ الأثر المزدوج يشرحون الفرق عادةً بالنية: السائق “لا يقصد” موت الواحد؛ إنما يقصد تقليل الضرر، وموت الواحد أثر جانبي.

أمّا “فليبّا فوت” فتقول: السائق هنا أمام صراع بين واجبين سلبيين:

  • واجب ألا يُصيب الخمسة بأذى،
  • وواجب ألا يُصيب الواحد بأذى،
    ولا يمكنه الوفاء بكلتيهما، فيجب أن يختار الأقل ضررًا: واحد بدل خمسة.

إذن:
لا تحتاج لتبرير فعله بالقول إن موت الواحد “غير مقصود”؛ يكفي أن تقول:

  • هو مضطر للاختيار بين إيذاء واحد وإيذاء خمسة،
  • وفي صراع واجبات سلبية متعارضة نختار الأقل سوءًا.

2. القاضي والاضطرابات (the judge and the riots)

الحالة المقابلة عند “فليبّا فوت” :

  • قاضٍ يواجه شغبًا عنيفًا،
  • الغوغاء يهددون بقتل خمسة أبرياء ما لم يُقدِّم القاضي شخصًا بريئًا واحدًا ليُعدَم بدلًا منهم (تلبيس تهمة).

هنا، تقول “فوت”، الحدس الأخلاقي القوي:

  • لا يجوز للقاضي أن يلفّق التهمة للواحد، حتى لو أنقذ الخمسة.
  • مبدأ الأثر المزدوج يحاول أن يفسّر ذلك بأن القاضي:
    • “يقصد” موت الواحد كوسيلة،
    • بينما السائق لا يقصد ذلك.

لكن “فوت” تقول:
الفارق الأعمق هو أن القاضي يوازن بين:

  • واجب سلبي: ألا يقتل أو يؤذي هذا البريء،
  • وواجب إيجابي: أن ينقذ الخمسة من الغوغاء.

وبما أن الواجبات السلبية أقوى إلزامًا من الإيجابية، فلا يجوز له أن يخرق الواجب السلبي (قتل بريء)، حتى لو كان ذلك سينقذ عددًا أكبر.

إذن: حلّ “فليبّا فوت” “الأصح” هو:

  • السائق: صراع بين سلبي/سلبي = يُختار الأقل ضررًا (1 بدل 5).
  • القاضي: صراع بين سلبي/إيجابي = لا يحق له انتهاك السلبي (قتل البريء) مهما كان عدد من سينقذهم.

معضلة العربة ..

في ورقة “فليبا فوت” ظهرت المعضلة كما قرأنا بمثال سردي ضمن مجموعة، قدمتها لنقد كيف أن مبدأ الأثر المزدوج الذي يركز على نية الفاعل يصبح قاصرا عن تفسير الظواهر المعقدة، في ردود أفعالنا وأحكامنا، وكانت المعضلة عندها ببساطة :
”سائق عربة خارج عن السيطرة، لا يستطيع إلا تحويل مساره من سكة ضيقة إلى أخرى، خمسة رجال يعملون على سكة واحدة ورجل واحد على الأخرى،أي شخص على السكة التي يدخلها محكوم عليه بالموت…
… السؤال هو لماذا نقول، دون تردد، إن السائق يجب أن يوجه نحو السكة الأقل ازدحاماً“
كانت ”فليبا فوت“ تعني بتساؤلها هذا  أن أحكامنا الأخلاقية في حالات التضحية بواحد لإنقاذ خمسة لا تُفسَّر بسهولة بمجرّد النية، بل أيضًا عبر تمييز بين الواجبات السلبية والإيجابية وحقوق الأفراد، هذه التساؤلات انتقلت لمرحلة متقدمة سنشرحها بمقالتنا ”الأخلاق والدماغ“ لنرى ما إذا كان وجود نظامين للمعالجة الذهنية (التفكير السريع والبطيء) له دور في أحكامنا.
إنه من خلال تلك الورقة التي نشرتها ”فليبا فوت“ نشأت معضلة العربة ثم صاغتها جوديث جارفِس طومسون Judith Jarvis Thomson بمقالة بعنوان ”القتل والسماح بالموت ومعضلة العربة“4 ثم نشرت بعد ذلك مقالة بعنوان ”معضلة العربة“5 لتضع عدة سيناريوهات مختلفة، ثم توسع مفهوم معضلة العربة ليشمل أمثلة متنوعة تصب بالنهاية للحديث عن :
الفرق بين القتل المباشر والسماح بالموت (killing vs letting die)، الفرق بين الفعل والامتناع (doing vs allowing), الفرق بين إلحاق الضرر كوسيلة لتحقيق الخير، وقبول الضرر كنتيجة جانبية متوقعة

سردية معضلة العربة:

     لم نعد أمام سائق مسؤول عن الحادث، بل أمام شخصٍ مارٍّ يقف بجوار ذراع التحويل: إذا لم يفعل شيئًا، ستدهس العربةُ الخمسة، وإذا حرّك المحوِّل انحرفت إلى السكة الجانبية لتقتل شخصًا واحدًا فقط. هنا ينقسم الحدس الأخلاقي بين من يرى أن الواجب تقليل عدد الضحايا (خمسة مقابل واحد)، ومن يرى أن تحويل العربة هو نوع من «القتل بفعل اليد» لشخص بريء لم يكن في مسار الخطر ابتداءً. غالبا سيختار الأكثرية تحويل المسار (لأسباب حسابية).

    أنت تقف على جسر فوق السكة مع رجل ضخم الجثة، والعربة الهاربة تتجه هذه المرة إلى خمسة أشخاص ولا يوجد محوِّل، لكن بإمكانك – لو دفعت ذلك الرجل من الجسر إلى السكة – أن توقف العربة بجسده فتنقذ الخمسة ويموت هو وحده؛

    الكثير يميلون هنا إلى الحكم بعدم جواز دفع الرجل، رغم أن الحساب العددي (١ مقابل ٥) لم يتغيّر، وبذلك تتكوّن «معضلة العربة» في صورتها الكلاسيكية:
    لماذا يبدو لنا تحريك المحوِّل من خمسة إلى واحد مقبولًا في حالة، بينما يبدو استخدام جسد شخص بريء كـ«حاجز» غير مقبول في حالة أخرى، مع أن النتيجة العددية واحدة؟

    إن هذا التعارض بين حالة المحوِّل وحالة الجسر هو ما استثمرته “طومسون” Thomson لتفكيك العلاقة بين utilitarianism (تعظيم مجموع الخيرات) وحقوق الأشخاص وعدم جواز استخدام الإنسان كـ«مجرد وسيلة»، عبر سلسلة من المقالات جعلت من معضلة العربة محورًا في النقاش الأخلاقي المعاصر حول القتل، والسماح بالموت، والحق في الحياة، لكن هذا التعارض أيضا وجد دراسات أخرى تتناوله من ناحية عصبية معرفية، عبر تأثير (التفكير السريع، والتفكير البطيء) بنظرية ثنائية المعالجة المزدوجة التي ترى العقل يعمل بطريقتين أو نظامين، وقد اتجه بعض علماء الأعصاب لدراستها من ناحية دماغية عصبية ومن ثم التعامل مع معضلة العربة في إطار علمي بحت، وهذا الاتجاه سنشرحه بمقالتنا ”الأخلاق والدماغ“.

    الخاتمة..

    تعرض مبدأ الأثر المزدوج، لانتقادات أكبر مما قالته ”فليبا فوت“، فهناك مثلا : غموض الفرق بين المقصود والمتوقع، وأيضا مشكلة القرب، ونعني بها ما مدى قرب أو بعد النتيجة عما هو مخطط له، وصحة القراءة للواقع، وهناك أيضا مشكلة إعادة الوصف التي تتمثل بادعاء عدم القصد للنتيجة السيئة المترتبة لكنها مقصودة بذاتها، كما لو كان قاذف القنابل يريد المدنيين ويزعم أنه يقصد الموقع العسكري وأما المدنيون فقُتلوا نتيجة جانبية غير مقصودة، وبالتالي تصبح الحجة هذه أو المبدأ مجرد وسيلة فتك.
    نشأت معضلة العربة في خضم تلك النقاشات وتطورت بصفتها مثالا لتعارضات أخلاقية وتناقضات بالحكم والشعور، إلى أن وصلت النقاشات لمستويات الدراسات العصبية كما سنرى مستقبلا في مقالة الأخلاق والدماغ.

    🕶 كُن معنا!

    ستصلك منشوراتنا كل أسبوع عن الجديد
    والمثير بعالم الشعر والفلسفة

    لن نرسل لك البريد العشوائي أو شارك عنوان بريدك الإلكتروني مطلقًا.
    اقرأ المزيد في سياسة الخصوصية الخاصة بنا.

    0 0 الأصوات
    تقييم الأعضاء
    1 Philippa Foot, “The Problem of Abortion and the Doctrine of the Double Effect,” Oxford Review 5 (1967): 5–15.
    2 PhilPapers +1 Alison McIntyre, “Doctrine of Double Effect,” Stanford Encyclopedia of Philosophy (Stanford University), first published July 28, 2004; see especially the citation of The New Catholic Encyclopedia for the four conditions
    3 نفسه.
    4 Judith Jarvis Thomson, “Killing, Letting Die, and the Trolley Problem,” The Monist 59, no. 2 (April 1976): 204–217, https://doi.org/10.5840/monist197659224
    5 OUP Academic +1 Judith Jarvis Thomson, “The Trolley Problem,” Yale Law Journal 94, no. 6 (May 1985): 1395–1415.

    مقالات ذات صلة

    الاشتراك
    نبّهني عن
    guest

    0 تعليقات
    الأقدم
    الأحدث الأكثر تصويت
    Inline Feedbacks
    عرض جميع التعليقات
    زر الذهاب إلى الأعلى
    Rkayz

    مجانى
    عرض