أعظمُ ما أنجزتهُ من مقالات خلال السنوات الثلاث الماضية كتبته بهذه الخيمة ، حيث جعلتها موئل راحتي وإجازاتي الأسبوعية ، ولم يتوقف الأمر عليها فحسب ، إذ أنني أسير في الظلمات ولي طقوسٌ بغزو أفئدة الشعاب مشيًا والحديث مع النجوم والاهتمام بما يقدمه الليل ذاته من خواطر شعرية وتأملات تزيد من يقظتي ، وقد قطعت أذرعة الحجاز و بطون نجد ، فليس لي بمكان أقيمُ به إلا تطلّعًا لباديته وريفه ، والسعي نحو فهمه عبر تضاريسه ومناخه ،
و قد مللتُ المدنَ ، وتكرار فكرة الجدار والسقف ، وذلك اللون الباهت الذي لا أعلم كيف استطاع أن يعلو عرش الألوان رغم كل هذه الأضواء التي نشعلها أينما اتجهنا .
أذكرُ أن أحد الزملاء في قرى سدير أخبرني أنه قد رأى سيارتي بعيدا بالخلاء ، وقد أخبرته أنني أعيش وحيدا وأحب السير في الروابي ليلا ،
حينها قال لي عن اعتقاده عمن يفعلون ذلك ”إنهم يخاوون الجن “، ولمعرفتي بهذا النوع من التفكير
قلت له “إنما المخاوي يسير إذا اكتمل القمر أما أنا فأحب حلكة الليل” ،
وقد بدا لي أنه اقتنع من كلامي (الذي ألّفت فكرته لحينها) من باب إشعاره بأنني مازلت محافظا على عقلي !
الساعة ٧ ليلًا ..
بالقرب من جبل خزّة ، أتكئ على ذاكرتي ، وأُطلق لمخيلتي العنان ،
– لقد أمضيتَ نهارك هنا فما الذي يجعلك للآن على هدأة البال اللذيذة هذه ؟
( حفيف أغصان السلَم ، أشعرني بأن علي الإجابة دون أي التفات لجدول الضرب وواجبات مادة الرياضيات )
أخذتُ تاريخ ابن عساكر بنفسٍ واحد ، وزفرتُ كل الدول الحديثة بعد ذلك ، نظرتُ لراحتي ، ثم أرحتُ لناظريّ السماءَ المزخرفة بالنجوم ، رحلتُ بكل واقعي مخلفا ورائي الطريق وإشارات المرور حتى وصلت إلى أن : ”كل انتماء هو قلق ، وما يعانيه الإنسان اليوم هو كثرة الانتماءات التي يظن أنه من خلالها سيسعد فإذا به مقيد بالقلق . ”
الساعة ١١ ليلًا ..
”إئتني بخارطة المدن ” قلتها لذراع ممتد من ترقوتي ، ثم رميت عبقريتي نحوها ، وعيناي تتنفس الصعداء ، ” ما هذا البلاء ، أليس من الأجدى للإنسان أن يعيش في رحابة الطبيعة ” قلتها أيضًا بشيء من نشوة المولود بالبكاء الأول ، لكن عبارتي هذه المرة كانت متجهة لروح الشعر الذي وقف مذهولا لا يريد التفوه بأي قافية .
( بدأت أفكر بكل تعاساتي ، إنها الحضارة إذن ! )
لقد كنت في غفلة ، إنما العدو الذي كنت أشعر بأنه في جسدي يعبث بكل أقداري لم يكن سوى هذه المدينة ” ، اقتحم مشهد التشافي هذا حقدي على أعمدة الكهرباء ، نظرت لروح الشعر نظرة المطعون بصمته ، لكن ذاكرتي جاءت بقصيدة كنت قد كتبتها قديما ، ناقما عمن يكرهون الليل مخاطبا إياه مدافعا عنه :
لعمري أنت بالدنيا جمالُ..
فلا تحفل بما فعلوا وقالوا
،
ذنوبٌ أينما كانوا بأرضٍ..
وتدميرٌ وظلمٌ واحتلالُ
،
عصاةٌ يقذفونك بالخطايا …
ومن أجسادهم نبعَ الضلالُ
،
صدوقٌ أنت لم تكذب علينا..
ستورٌ لا يُذلُّ بك اتكالُ
،
محبٌ عاشقٌ ورِعٌ بدنيا..
تعكرها الإجابةُ والسؤالُ
،
فيا ليلي وليلى في ضلوعي..
ألا يكفيك أنك لي وصالُ
،
فتغدقني بذكراها وتحنو ..
ولم يمنعك من هذا اشتعالُ
،
وأسمعها بجُنحِكَ يا كريماً…
تعاقرهُ الرزانةُ و الجلالُ
،
عطوفٌ أنت لا يُردِيك حقدٌ..
وفي أثوابك اتسق الخيالُ
،
هدوؤك تنبت الآمالُ فيهِ..
كأبراجِ السماء وما تزالُ
،
وفي أمواجك السود اكتحلنا..
وفي سكناك يحتفلُ الدلالُ
،
فؤادك لايشوبه أي ذنبٍ..
وصفوكَ لايكدّرهُ اختلالُ
،
وفجرك حين تغدو ليس عيباً..
لأنك منذ أن كنّا مآلُ
،
بإيمانٍ وتوحيدٍ عظيمٍ..
رحلتَ وأنت فيهنّ الكمالُ
،
أحبك يارفيقاً لم يخنّي..
وتعشقكَ الصحاري والجبالُ
،
وتهواكَ الكواكبُ في بروجٍ..
أضاءت كي يزيد بهنّ فالُ
،
وأشواقٌ وترحابٌ ووصلٌ..
فتغرف ما نود ولا يُحالُ
الساعة الواحدة ليلًا :
” لقد قررت غزو الحضارة ، إنها كل الشرور ” ، ليس شيء في ذهني سواها ، لكنني أعي جيدا أن لا سبيل نحو ذاك سوى أن أكثف تفكيري في تفكيك نفسي ! ، وفي سياق ذلك فكرت بالإنسان المشترك بيننا ، والشخص الذي يحمله كل منا بمنأى عن الآخر ، وكيف أن هذا العصر يصب نحو ”فرعون“ ، وتمجيد المادي ، وقد حال بيني وبين الزهد بكل شيء ، جموحي الشعري ، حتى لو قيل أن الشعر ابن الطبيعة فهو أيضًا لا يكون إلا من صراع بين نزعتي : التمدن و الأمومة ، أما عن بقية النزعات وخصوصا الامتلاك فهي عندي بأقل الدرجات في هذه الساعة المتأخرة من الليل ،
وما أن تمادى بي التفكير قفزت إلى خيمتي بصوتها الغجري ، امرأة لا أعرفها ، تحمل في ملامح ظهورها ما يشبه أصدقاء مراهقتي بالمتوسطة والثانوية ، كانت متشحة بالعقل ، مبهرة جدا في اتزانها ، ولم أشأ حينذاك أن أُبعدها فهي على كل حال لم تؤذني ، وشعرت بأن زيارات كهذه لن توثر على مسيرة عدائي .
الساعة الثالثة ليلا :
يا ساحرة ، إن ما تملكينه من حسناوات في عينيك ، لجدير بالشعر ، ويا لها من مفارقة كبرى ، أن تكون لحظة مغادرتي الإسمنت والحديد ، وغيظي من تاريخ العمران ، واتجاهي نحو الأفق الحر ، هي لحظة ظهورك أنت ، يا مطرزةً بالعطور ومخضبةً بالأمل ومنادية بالعيش في المدن !
أخذت الساعة بعقاربها ببطء نحو الزمن الذي فضل السحر على العلم حينها ، وقد ساعده لسوء الحظ شيطان شعري ، الذي مازلت ليومي هذا أعتبره قد خيّب حدسي ، وأباحني لشيء فوق قدرتي وأوقف حراك عقلي المتقد نحو معركة اخترتها برعاية الليل .
الساعة الخامسة فجرًا:
“ليس من الطبيعي أن يترك المرء حياته لإرادة صماء ، لا نعلم عنها سوى رغبتها الدائمة بالتكرار ، ثم إن الطبيعة مع كل هذا الهدوء الذي تمنحنا إياه لتنادينا نحو التقدم ببسالة غير أنها بالطبع لا تدعو على نفسها ، وإن علي أن أمزج بينها وبين العالم الحديث كما أفعل بالمزج بين أوزان الشعر في قصائدي الممزوجة ، ولعل غرابتي بالجمع بين المتناقضات هو ما يؤسس لي وجودا خاصا ، ثم إن هذه الحسناء الفاتنة قد أبلغني حضورها المضيء في ذاتي أن المدينة كذلك تحمل في طياتها ما ينبت الأمل ويجعله رونقا .. علي أن أعود ”
أقول في نفسي
ساعة الشروق :
الإشارة حمراء بعد طريق اتخذته غناءً ألبَسَ الضجيجَ رداءً يخفي حدته ، تبقى عشرون ثانية لأتجه نحو الحي الذي أسكن فيه ، رسالة كومضة برق على شاشة جوالي ، اعتقدت أنني المعني بفحواها ، هممت لقراءتها ، شعرت بأنني مدين لهذا الانتباه بوجودي ، تقدمت بكل ما فيّ من غرام لغريزة اللغة في ذاتي ، وقد سبق كل ذلك خيالي المتوهم الساذج بأنها هي من أرسلت لي ”صباح الخير“ ،
لكن للأسف كانت ” تم قيد مخالفة مرورية : تجاوز السرعة المحددة أكثر من ١٠ إلى ٢٠ كم/س – رصد آلي” .
عصام مطير