توضأ الليل ثم أمَّ نجومه بالنوافل ، وهناك حيث أبصر قافلتي تغرق بالصحراء ، أيقنت أنه لا جدوى من العبث والسعي في تغيير ما تبدو عليه الأشياء ، خاصة إذا كانت قد تأصلت للدرجة التي تجد لها مرادفات كثيرة باللغة ، فالصحراء مثلًا أثبتت أنها راسخة بوجودها ، من خلال كل تلك الكلمات التي تعنيها بلغتنا كقولنا : المفازة ، البيداء ، الفلاة إلخ، وهي ما يطلق عليها اصطلاحًا المرادفات مما يؤكد هويتها الجامدة عبر القرون والأجيال مع كل تلك المحاولات اللفظية باختلاق معنى لها أو جانبًا جديدًا يظهر أنه يمثلنا نحن أشد مما يمثلها هي وبالتالي علي أنا الآن أن أتقبلها كما هي ، لا للعنها ولا لمحاولة استصلاحها ، إن الطبيعة عبّرت عن نفسها قبل ظهورنا وتتابع دفاعها عن نفسها بوجودنا ، والفكرة التي أتبناها هذه الأيام خلاصتها إنه لا يحق لنا إلا بالشعر أن نزيح الطبيعة ونوظف أشياءها بغير ما هي عليه ، وليس هذا فحسب بل ينبغي أن أتوقف عن انتظار التغيير أيضًا ، عن كل تلك الكثبان العاجزة التي أوهمت ذاتها بالعشب والمطر عبر فكرة الانتظار حين لم يسعها أن تبدأ ، وأن تنتهي .
إنني أكتب الآن وقد نقشت في دفاتري يومًا بأنه يسعني الحديث عن الشارع والرصيف ، عما تدسه الألوان الباهتة على الجدران من كآبة التكرار وموت الذاكرة ، ذبولها أو صراخها المكتوم بيد الغبار أي بأنه يسعني الحديث عني ، عن مأزق أن أكون بالخانة التي لا أريدها بجانب واحد مني وأريدها بجوانب أخرى ، بأنه يسعني الكثير من هذا الهذيان أو هذا الثراء المفلس وبأنني امتنعت حينها على غير عادتي التي نمت وترعرعت بي منذ أن أدركت الأبجدية ، وقد طافت بي الآمال وأخذتني الأمواج والأشرعة ، ولربما كان كل ذاك بفعل يدي ومحاولتي بالسيطرة على وجداني والخروج من مأزق العاطفة بطرق تعلمتها عنوة لأردد ما تقوله الجرائد وأنتشي لإشادات رئيس التحرير ، لكنني لم أستطع تحقيق الشروق الذي أريد ، لأنني إذ فعلت ذلك إنما كنت أغيّر من طبيعتي ، أعبث وأسعى في تغيير تضاريس نفسي ، وحان الوقت لأتصرف وفق ما أنا شعوريًّا عليه ،
وإذا كان الرأسماليون قد أخذوا شعار ” دعه يعمل دعه يمر” وهي المقولة التي قالها وزير المالية الفرنسي رينيه دي فوير ثم طورها بعد ذلك الاقتصادي الفرنسي دي جورناي لزيادة الإنتاج ورأس المال وهي بالمختصر تدعم عدم التدخل من الحكومة في اقتصاد السوق فإني بالجبهة المقابلة ، سأدع لقواي النفسية العميقة حرية الحركة والمرور والعمل بشعار “دعها تثرثر دعها تطير” مادامت الأمور جميعها على كل حال ستصب بالنهاية ، جاعلًا نصب عينيَّ ما قاله المتنبي
فطعم الموت من أمرٍ حقيرٍ
كطعم الموت من أمرٍ عظيمِ
ومع كون بيته يصب بالمغامرة وفق سياق البيت بالنص وما سبقه “إذا غامرت في شرف مرومِ” لكنه بالعموم يصب بكل معاني الحياة وإنها لفلسفة عظيمة أن ينحاز المرء لنفسه ، ولست نادمًا بالوقت ذاته على الانحيازات القديمة البالية لمن لا يستحق فكل ما بالأمر أنني أجرب نفسي وأعي عالمي .
يحلو لأي كاتب أن ينطلق من ذاته ويعود إليها ، وتظل حركات وسكنات ما حوله تثير وتثبط فيه ، وليلتي هذه قفزت بي إلى بر المراجعات كما هو شأن الليل في تمشيط خيالاتنا وأفكارنا ، ألتفتُ بهدوء نحو النار التي أشعلتها بخيمتي في الجنادرية ، وأراقب انسحاب الشتاء ببطء ، وأترك للصحراء أيًا كان اللفظ الذي نشير فيه إليها ، قافلتي
عصام مطير
الرسمة الملحقة للفنانة الأمريكية Roseanne