كارل يونغ والشعراء
ليس جديدا أن نذكر ذلك الانفصال الفكري بين فرويد وكارل يونغ على صعيد التحليل النفسي ، وموقفهما من اللاوعي والليبيدو وغيرهما من المواضيع التي تخص النفس البشرية ، إلا أن ما يهمنا في ذلك الاختلاف هو الشاعر في نظر الاثنين وخصوصًا كارل يونغ الذي فيما يبدو لي قد تقدم برؤيته في مفاهيم الفن عن نظيره فرويد الذي اتجه نحو تفسير الجمال في إطار الرغبة الجنسية :”يبدو أن الأمر الذي لا يقبل الجدال هو أن نجد لفكرة “الجميل” جذورًا في الإثارة الجنسية وأن الجميل لا يشير أصلًا إلى شيء آخر غير ما يُثير جنسيًا”،
وهذه النظرة التحليلية للجمال عند فرويد وجدت معارضة عند الكثير من المهتمين بفلسفة الجمال فيعترض “جيروم ستولونيتز/Jerome Stolnitz” -الفيلسوف الأمريكي المولود عام 1925م – بكتابه “النقد الفني دراسة جمالية” ويشكك بقدرة علم النفس برمته في تفسير الفن :
“هل يثبت أن باستطاعة علم النفس تفسير قيمة الفن ؟ إنه لا يستطيع ذلك إلا بشرط واحد وهو شرط حاسم : هو أن يكون من الممكن إثبات أن إثارة الانفعال الشديد هي بالفعل ما يجعل للفن قيمة، غير أن هذا لا يمكن أبدًا إثباته عن طريق علم النفس وحده”
، وقد اعترض المؤلف أيضًا على تفسير الجمال بدراسة منشئه :”القيمة الجمالية لا يمكن أن توجد إلا في العمل الفني لا في منشئه” وهذا الموقف يتفق مع ما قاله كارل يونغ بكتابه الروح في الإنسان والفن والأدب:
“واهتمام فرويد كان منصبًا على منشأ الأشياء فحسب ، ولم يكن يعنيه أبدًا إلى أين تذهب” ويقول في محاضرته عن علاقة علم النفس التحليلي والشعر :”التساؤل حول ماهية الفن في ذاته سيكون خارج إمكانية المعالج النفسي إلى الأبد ، وستقتصر إمكانية مقاربته على جانب عالم الجمال”
وهو يعارض محاولة قراءة الشاعر من خلال حياته الشخصية فيقول
“يستمد الشعر العظيم قوته من حياة الجنس البشري ، وسيفوتنا معناه بالكامل إذا حاولنا استنتاجه من العوامل الشخصية”.
يقدم لنا يونغ قراءة مميزة عن ظاهرة الأدب حين يربط بين المجتمع في لاوعيه الجمعي والمنظور الواعي لعصر ما ، فالتحول الذي يجري على اللاوعي الجمعي ليكون خبرة حية ، تجعله ابداعا لتلك الحقبة ، فالشاعر يقود هذا التحول ، ومن خلال هذا الطرح يتقدم يونغ على فكرة الشخصي والمكبوت في نفس الشاعر ليمنح المسكوت عنه بالمجتمع وتراكماته عاملا مهما اضافيا في نجاح العمل وابداعه كذلك .
وليونغ تحليل نفسي جميل للعملية الإبداعية عند الشاعر إذ يميز بين نوعين من الشعراء ، بناء على وعي كل منهما خلال الإبداع ، فهناك الانقباضي/الانطوائي والآخر هو الانبساطي/الساذج ، الأول يقود النظم والتأليف وهو واع تماما بكل العملية الإبداعية التي يمارسها وبالتالي فهو يعتبر عمله يمثل إرادته الحرة دون غرائب يشعر بها ويضيف يونغ “وقد يكون حتى مقتنعًا بالكامل بحريته في التصرف والسلوك ويرفض الاعتراف بأي احتمال بأن يكون عمله أي شيء آخر غير تعبير عن إرادته وقدرته” في حين يرى الآخر الانبساطي بأن هناك إرادة غريبة أخرى ألهمته وقادت عمله .
نعود ليونغ وتفريقه بين نوعين من المبدعين بعد أن نمر على نيتشه الذي كان له مقولة عن الشعراء بكتابه إنساني مفرط في إنسانيته :
“يعبّر الشاعر عن الآراء السامية العامة التي تدور في ذهن شعب ما ، إنه لسان حالها وربابتها ، إلا أنه ينطق بها بواسطة الأوزان وكل الوسائل الفنيةمما يجعل الشعب يتقبلها كشيء جديد كليّا وبديع، ويغدو معتقدا بكل جدية بأن الشاعر لسان الآلهة .”
في هذا النص يرد نيتشه على القول السائد في محيطه عن كون الشاعر صوت الآلهة ، إذ يظهر تفسير وجود الشعر وربطه بما وراء الطبيعة بأوروبا (ألمانيا تحديدًا) يأخذ شكل (الامتداد الإلهي) وهذا ما يرفضه طبعًا نيتشه وغيره . إن الشعر في مجمله كان محاطًا بحالة الاستغراب من الناس ، من أين يأتي ؟ كيف جاء؟ ولماذا؟ .
يقول نيتشه:
“إضافة إلى ذلك فإن الشاعر نفسه ينسى داخل ما يشبه الغيبوبة داخل عمله الإبداعي من أين تأتيه تلك الحكمة”
ولنيتشه هدفه بالنص حيث يرفض نسبة الإبداع الشعري لآلهة بناء على نزعته الإلحادية ورفضه أفكار القساوسة ورأيهم في مسألة الإبداع الشعري ، لكنه مع تلك النزعة كان مع الصواب ، ولم تكن أوروبا وحدها من تعتقد بمثل تلك الخرافات والتفسير السطحي لعمليات الإبداع فقد كان البقية كذلك فبعض الأمم ربطته بالملائكة وأخرى بالآلهة وأما تاريخ العرب فيشير إلى ربطه (بالجن/الشياطين)
ومن الأمثلة على ذلك
قول كُثيّر عزة “صاحبكم صاحبكم صاحبكم” مناديًا (الجن) بشعاب الجبال بعد أن فاخره فتى من الأنصار ببيت من الشعر لحسان بن ثابت..ولحسان بن ثابت أيضًا يروى عنه في التراث الأدبي قوله:
“ولي صاحبٌ من بني الشيصبانِ..فحينًا أقولُ وحينًا هُـوَهـْ*”
،
والشيصبان : قبيلة من الجن، واسم شيطان ، والبيت على البحر المتقارب ، وقد كان لبشار بن برد شيطانا اسمه شنقناق وللكميت مدرك بن واغم وغيرهما كذلك وللعرب بهذا الموضوع قصص كثيرة لم ينفها أو يواجهها إلا المعتزلة قديما الذين كان لهم اهتمامٌ بالعقل والقرآن دفعهم للنقد الاجتماعي ومواجهة الخرافات لكنهم فشلوا واضمحلوا مع الزمن بسبب إشكاليات الحكم السياسي حينها و تصاعد التيار الإخباري الحديثي لدى السنة والشيعة .
إن تلك الادعاءات عن الجن وفاعليتهم بالشعر مازالت موجودة لليوم عند الكثير من المعاصرين ،
وقد يستخدمها بعضهم مجازًا (من باب الحيرة أو الإعجاب) للإشارة للقدرات الخارقة في الفنون الأدبية
أو (من باب التوصيف لنوبة الشعر) ومزاجه حينها وهذا فيما يظهر ما كان عليه بعض الشعراء في تسمية نوبات الإلهام والنظم وشعورهم بها المرتبطة بمزاج نفسي محدد ، أو تصديقًا لها أي الاعتماد عليها وتفسير عملية الإبداع بها ، لكن هذه الادعاءات في جميع الأحوال لا تصح حقيقةً إذ ان العقل البشري قادر على
الإبداع في ظروف معينة يمر بها الإنسان الموهوب تساعده على تنمية ذهنه وحشد قواه في الاتجاه الخيالي التعبيري وقد تنبّه نيتشه لذلك في نصه إذ يرى أن ما يقوله الشاعر هو امتداد لمحيطه (الناس، رجال الدين ، الشعب) وبالتالي لا علاقة لآلهة في الموضوع وأن الشاعر في غيبوبة الإبداع لا يعي وينسى أن معانيه جاءت من معارفه وذكرياته السابقة ، فالشاعر بالنهاية هو صوت الشعب (المحيط). هذا بالطبع ينطبق على بقية الآراء بالأمم الأخرى (أولئك الذين يربطونه بالملائكة أو الجن والشياطين)،ورأي نيتشه صحيح ، لكن السبب الذي دفع نحو مثل تلك الاعتقادات يحتاج تفصيلا :
عملية النظم (بناء الشعر) عند العرب مثلًا مرتبطة بالغناء ، فالشاعر يلحّن وينشد ما يود قوله حتى ينتظم في قالب موسيقي موحد، وأما الذي يزداد فهو التخييل والخيال والمشاعر ، وبالنسبة للذهن عمومًا فيضخّم الذاكرة ويرمّز الجوانب النفسية التي يفكر بها الشاعر تحت سطوة الإلهام/الشعور
في ظل تلك الظروف حال النظم ، فإن وعي الشاعر يدرك البناء ويخطط ويعمل ، لكن بعض الجمل الشعرية
تأتيه بسرعة فائقة أحيانًا تجعله يشك بأنها ليست من ذهنه ، وبسبب غياب المعرفة في كيفية عمل العقل سابقًا فإن الناس كانت تعتقد بأن ذلك الصوت أو الجملة السريعة التي جاءت مقذوفة هي من (طرف آخر)
وهذا الصوت يشبه إجابة (١+١=؟) ، سريع جدًا لكنه عبقري ومبدع إذ أن الصورة الخيالية المركبة منسجمة وبارعة ومبتكرة ، تجعل المرء يعتقد أن شخصًا بجواره ساعده بها (أي بعرف أساطير الأمم آلهة، ملائكة جن إلخ) والحقيقة أن هذا من صميم عمل العقل/النفس البشرية (الإبداع) بالإضافة لكون الشعراء يكثر بهم الاضطرابات النفسية لحساسيتهم الشاعرية وسماع الأصوات (الهلوسة السمعية) حال النظم التي تجعل بعضهم في حيرة مع ما يسمعه أو حتى ما يراه ، خلال نوبة النظم المقاربة إلى حد ما لنوبات الفصام في الاستغراق بالذات وتشظي التفكير وتكاثف الخيالات .
يفسر هذا الأمر يونغ أيضًا تفسيرا جيدا من خلال تفسيره للإبداع :
“سيكون من المفيد النظر إلى العملية الإبداعية كشيء حي مزروع في النفس البشرية ، وفي لغة علم النفس التحليلي ندعو هذا الشيء الحي “مركب مستقل” ، إنه جزء منفصل من النفسية ، يقود حياة خاصة به خارج هرمية الوعي وتراتبيته . وتبعا لشحنته الطاقية قد يظهر إما كمجرد اضطراب في النشاطات الواعية أو كسلطة فوق تراتبية يمكنها أن تستخدم الأنا لصالح أهدافها ، وبالتالي فإن الشاعر الذي يتماثل مع العملية الإبداعية هو من سيذعن منذ البداية عندما تبدأ الضرورات اللاواعي بالعمل لكن الشاعر الآخر الذي يشعر بقوته الإبداعية كشيء غريب هو من لا يذعن نظرًا لأسباب عديدة ومن ثم يبقى غير واع” .
هذا التفسير الجيد من ناحية نفسية لا يمكن إثباته علميًا بالطبع لكنه الأقرب للمعقول ، ومع ذلك فإن عملية الإبداع ذاتها تظل خفية وغير مفهومة وهذا ما جعل كانط في كتابه ” نقد ملكة الحكم” يربط العبقرية بالشعراء لا بالفيزيائيين واكتشافاتهم وقد سبّق ذلك بتبنيه أن العبقرية موهبة للفن لا العلم فالعبقرية عنده هي “الموهبة التي تعطي القاعدة للفن” وها هو يقول أيضًا :
ذلك أن المرء يمكنه أن يتعلم كل ما عرضه نيوتن في كتابه الخالد :مبادئ فلسفة الطبيعة ، مهما كان اكتشاف ذلك يقتضي من قدرة بالغة في ذلك الرأس ، لكن أحدًا لا يستطيع أن يتعلم كيف ينظم قصائد مملوءة بالروح ، مهما تكن جميع تعليمات فن الشعر مسهبة والنماذج عنه ممتازة ، والسبب في ذلك أن نيوتن كان في وسعه أن يوضح لنفسه وللآخرين ولخلفائه كل لحظات سيره ، ابتداء من العناصر الأولية للهندسة حتى أعظم اكتشافاته وأعمقها لكن لا هوميروس ولا فيلاند قادر على أن يبين كيف تنبثق آفكاره الغنية بالخيال ،مع ذلك الحبلى بالمعاني في الوقت نفسه وكيف تجد بعضها البعض في ذهنه ،لأنه هو نفسه لا يعرف ولا يستطيع أن يعلّم ذلك للآخرين أيضًا”
لقد أدهش الغموض الذي يكتنف العملية النظمية بالشعر الفلاسفة والمفكرين وبقية الناس ، وهذا سر نسبتها للعبقرية عند كانط مثلا فالعبقرية عنده موهبة طبيعية بأصالة غير قابلة للتعلم، تمنح الإبداع وهذا لا يمكن نسبته للعلم ، ومنه فإن الجمال مرتبط بالعبقرية وقد فصّل كانط هذه النقطة في كتابه ، ثم إن قوله بأن الشاعر ذاته لا يعرف كيف تنبثق أفكاره ويعني بذلك التفسير الميكانيكي للعمل الفني/الشعري فهو بالطبع صادق وحين نعود للعرب وهي أمة الشعر ، التي قال عنها جوستاف لوبون بكتابه حضارة العرب :
“ولم يكن لغوًا قول بعضهم ، إن العرب وحدهم قرضوا من الشعر ما لم تقرضه أمم العالم مجتمعة” ،
سنجد أن الشعر لديهم مرتبط كما أسلفت بأثر الغيبي ، الاعتقاد بالجن مثلا ، لكننا نجد دراية أولية بالأثر النفسي فمثلا يقول لنا ابن قتيبة بكتابه الشعر والشعراء :” ويقال أيضًا إنه لم يُستدع شارد الشعر بمثل الماء الجاري والشرف العالي والمكان الخضر الخالي” ويقول ناقلا بكتابه :
“وقيل لكثيّر : يا أبا صخر كيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر ؟ قال أطوف في الرباع الخالية والرياض المعشبة ، فيسهل علي أرصنه ويسرع إلي أحسنه”
نلاحظ أن هذه آراء تتحدث عن الإلهام وطلب الشعر ، للشاعر بعالم كان يفتقد الكثير من أدوات التفكير بالذات ، لكن هناك قول يكشف لنا عن حيرتهم في علاقة الانقطاع الشعري بالغذاء فينقل لنا ابن قتيبة أيضًا :
“وللشعر تارات يبعد فيها قريبه ، ويستصعب فيها ريضه ، وكذلك الكلام المنثور في الرسائل والمقامات والجوابات ، فقد يتعذر على الكاتب الأديب والبليغ الخطيب ، ولا يُعرف لذلك سبب ، إلا أن يكون من عارض يعترض على الغريزة من سوء غذاء أو خاطرٍ غَم”
نستشف من هذه الجمل بأن النظرة العقلانية للشعر موجودة كذلك بين العرب وعلمائهم ، فليس الأمر مرتبط فقط بالاتجاهات الغيبية لكن تظل عبقرية الشاعر في غياب الآلية التي من خلالها يكون الإبداع منجزا ، وبالشعر المعاصر لدينا شاعران تناولا ظاهرة الشاعر ، إيليا بقصيدته : الشاعر ، التي ناقش بها ظاهرة الشعر والشاعر ، والقصيدة مطلعها :
قالوا وصفت لنا الرحيق وكوبها ،
وصريعها ومُديرها والعاصرا
وهناك قصيدة أخرى للجواهري بعنوان الشاعر ابن الطبيعة الشاذ ، ومنها اخترت هذه الأبيات:
غريبٌ عالم الشعراء تقسو
ظروفهم والسنُهم تَرِقُّ
،
كبعضِ الناس هُمْ فاذا استُثيروا
فبينهم وبين الناس فَرْقُ
،
شذوذُ الناس مُختَلَق ولكنْ
شذوذُ الشاعر الفَنّان خَلْق
،
إنه ليس من مهمة الشعر تفسير نفسه ، ونحن نعلم أن الشعر ليس كالعلم فهو يشير ويلمح ويخيّل ويغنّي ، أو كما يقول كانط ” فن الشعر هو فن إدارة اللعب الحر للمخيلة كما لو كان نشاطًا للفهم” وأتفق معه بهذا فالشعر خطاب وجداني رمزي وينبغي أن يوصل رسالته من خلال الخيالات أو كما قال الأديب والناقد الألماني “أوجست ولهم شليجل” (١٧٦٧–١٨٤٥م) :”الشعر تفكير بالصور” ، وبالتالي فلن يقدم لنا الشعراء عبر أداة الشعر ذاتها ما يفسر لنا آلياته العميقة لذا فإن التفسير المطلوب هو عند علماء النفس ومع ذلك فإن أحد كبار علماء النفس أكد أن الجمال برمته ليس لعلم النفس قدرة على تفسيره ، مما يحيلنا بالنهاية إلى الفلسفة .
للحديث بقية …
عصام مطير
الرسمة الملحقة من رسم الفنانة الهنغارية Erica Kocsi
المراجع :
- س.فرويد:ثلاث مقالات في النظرية الجنسية
- النقد الفني دراسة جمالية، جيروم ستولنيتز ، ترجمة فؤاد زكريا ، ص ٢٣
- الروح في الإنسان والفن والأدب ، كارل يونغ ، ص ٥٧، ص٩٢ ، ص١٣٢ ، ص١٠٦
- إنساني مفرط في إنسانيته ، نيتشه
- خزانة الأدب ، لب لباب لسان العرب ، للبغدادي ، ج٢ ص ٤٢٨
- نقد ملكة الحكم ، كانط ، ص٢٣٣ ،ص٢٣٤
- حضارة العرب ، جوستاف لوبون ص ٤٤٨
- الشعر والشعراء ، ابن قتيبة ص٧٩ ،ص٨٠ و٨١
- ديوان إيليا أبي ماضي قصيدة الشاعر
- ديوان الجواهري ، قصيدة الشاعر ابن الطبيعة الشاذ