آراءآراء فلسفية

الصمت وتجلياته ..

عادةً ما يكون للجمال سحره الخاص وأثره الغريب، على الذوات والأشياء فها هو الصمت بوظيفة استثنائية في رحابه، إنَّها وظيفة التعبير عن أشد اللحظات أهمية في الحفاظ على المعنى عبر ترك الكلمات والجُمل، وإن الصمت كما نعلم حين يكون شكلًا من أشكال الانصراف عن الانتماءات والتعاطي معها بالامتثال للجمال، وبالتالي سكونًا وانشغالًا في شأننا الخاص،( أعني ذاتيتنا المثارة الآن من هذا الجميل) أقول إن الصمت حينها يحكي ويتحدث، وهذا الظهور المزدوج بين الإصغاء للجمال والحديث عنه أي الاهتمام فيه عبر ترك الحديث ذاته، هو ما يمكّن الشاعر والرسام الخلاص من الزمن والانهماك بالتجربة الجمالية فالصمت حينها مفتاح القيود وحارس الدهشة وأداة التواصل الأعمق.

يحقق الصمت انسحابا مقبولا من الموقف المنبوذ أو حتى المرعب في الشأن الاجتماعي، وقد يكون تعبيرا عن الموافقة كما يقول العرب ”الصمت علامة الرضا“ ويأتي أيضًا في سياق الشيطنة الخرساء حين وجوب الكلمة، وكل هذه ليست من الأمور التي نتأملها هنا، بل ما نفكر فيه هو ما يحققه أو يمتد فيه الإلهام ليخلق جمالا في الأفق القريب أو البعيد، ليتحول الصمت بصفته انقطاعا عن الآخر إلى الإصغاء المتدفق لإيقاعات نفسية ( قد تبدأ نشازًا لكنها مع مضي الوقت تصنع لحنها الخاص)
وبالتزامن مع هذا التحول الإيقاعي النفسي تنمو براعة ما.

إن هذه التحولات هي رفيقة كل من نال صمته اكتسابا أو خلقةً لكن الأخيرة التي عادةً ما تكون من حظ ”ثقال الدم“ الذين حباهم الله معرفة سابقة بأن وجودهم الثقيل يلزمه الصمت لحفظ أنفسهم، لا تملك فعلها الابداعي  إذ أن ثقال الدم عادةً ما يكونون بمزاج يعرقل مرور الكلمات حتى بأذهانهم، وبهذا فإن الصمت الإبداعي هو نوع يستوجب طربية الذهن خصوصا عند أولئك الذين يصنعون صمتا بطريقة لا تخل من جاذبية ثرثرتهم وترنّحاتهم الشخصية.

 إن هذا الصمت الإبداعي الذي أبصره، يرخي ذراعيه للخارج بالتزامن مع تدفق هائل للأفكار والمشاعر على مسرح الوعي داخليا، وهذا النوع المزدوج الهوية، الساكت خارجا والمثرثر داخليا يحسن اتخاذ الشعر وسيلة له لأن كراهية التكرار تدفع لابتكار الأسلوب الخاص بالتعبير، ولا يوجد حينها سوى أن يكتب أو يغني المرء مع نفسه ويترك أسماع الناس لمظهره الخارجي.

بالإلهام، يصبح للصمت قيمة أخرى، والتلذذ بالتجربة الجمالية ينال الصمت كذلك وظيفة مختلفة، وهكذا يقفز من مجال لآخر محققا معناه الذي توده منه السياقات، ونحن إذ نتحدث عن الصمت فلا نعني الموت، بل الحياة، الرغبة بها، ولا نعني المجتمع، بل الذات، أي أنه امتثال لإنسان لا الشخص، وإذا كانت مراحل الإلهام متفاوتة ومختلف في تكوينها، فإننا من المؤكد لا نختلف أبدا عن وجود الصمت، وفي تجربة الكتابة نعود لما كتبه سارتر لخليلته سيمون جوليفيه برسالة عام 1926م1:

“ركزي على الصورة حتى تشعري بانتفاخ كالفقاعة، وحتى تشعري بأنها تشير إليك”

سارتر

إن هذا المثال من الممكن منحه عمقًا أشد عبر قولنا منح الأشياء مذاقا وإرادة في ذواتنا لتشع بالفكرة التي اختارتها أعماقنا من إلهام شعورنا بهذه الأشياء بدءًا، إنه نوع من الصمت الروحي يدفع العابرين بذواتنا للحديث بالنيابة ، ويأتي حينها عقل الشاعر المتأمل هذا ليمنحها اللغة المناسبة، ومن الممكن أيضًا أن يكون الصمت بمعناه الانسحابي يحقق ما قاله ”جون كيتس“ john keats عام ١٨٢١م2

”ليس هناك كلمة واحدة تفوهت بها في حياتي يمكن اعتبارها رأيًا نابعًا من طبيعتي الذاتية —
وكيف لها أن تكون كذلك، وأنا لا أملك طبيعة أصلًا؟
عندما أكون في غرفة مع أناس، فإنني، إذا لم أكن غارقًا في خلق تصورات من بنات أفكاري،
فإن “ذاتي” لا تعود إلى ذاتها حين أعود،
بل تبدأ هويات الآخرين في الغرفة بالتسلل نحوي، تضغط عليّ حتى أنني، بعد وقت وجيز، أجدني مُلغى تمامًا.“

جون كيتس ، من رسالته إلى ريتشارد وودهاوس

 هكذا يكون الصمت انسحابا من الموقف الشعوري ومنح الآخرين فرصة الحديث بنا والظهور للعالم من خلالنا عبر التعبير ،وما قاله ”كيتس“ في وصف الإلهام به من الدقة والملاحظة ما الله به عليم. 

إن ما تبديه الحياة لنا من أحداث وتقلبات يحقق معرفتنا بما نعده سلوكا جسديا بدائيا ليكون صفة عقلية بارعة، وبالمنطق نفسه إن الصمت ليس كالكلام، فهو ألصق ظاهريا بالسلوكيات الجسدية منه بالأعمال العقلية، لكنه مع ما تقدمه لنا الحياة من أقدار متفاوتة يصبح في سياق العقل والبديع أشد وأعظم، وإن كان يفضّل الأدوار المستترة، فالشاعر مثلا يظن حاله حال النظم متكلما، لكننا نعلم أن النظم ذاته يتخلله  إصغاء كبير لصوت الباطن غير المسموع بل الموعى به ذاتيا، فالشاعر فعليا ابن الصمت البليغ باختلال الصفة والدلالة، فالحديث النفسي لا يمكن اعتباره حديثا حقيقيا لأن الآخرين بالأساس لا يسمعونه، وهو لا يتلفظ به حينها، ومثل هذا الحديث حينئذ صمت ناطق.

إنه بعالم الذات، تصبح اللغة غير دقيقة في ألفاظها لوصف التجارب الذاتية، لما يبرز في حقل الوعي من ظهور، ومعاني داخلية، فإذا كنا نشير للأشياء خارجنا بلغة موحدة لنفهم بعضنا بعضا، فإن ما يكون في أعماقنا ونابع منها كالحديث النفسي على سبيل المثال لا تنطبق عليه ألفاظ اللغة إلا مجازا من باب التقريب، وإلا فإن سمعنا الذاتي ليس سمعنا القادم عبر آذاننا، وليست جمله هي هي جمل ألسنتنا، وبناء على ما سبق يكون الصمت له طريقته في الظهور الناطق بل و قد يأتي الصمت في نطاق الفعل الابداعي بشاكلة مريبة،  يتشكى منها الفرد لأنه وعى ببلادة حسية وجمود شعوري ما يمكن ان نسميه ”صمتا داخليا“ مثل ذاك الذي تكلم عنه جون ستيوارت ميل في طيات وصفه للاكتئاب ، مما حدا به بالنهاية لقراءة شعر ووردزوورث بطريقة جعلته يصف القصائد بأنها شفاء لحالته العقلية، هذا النوع من الصمت الذاتي المرير، قد يكون هو المؤسس لعقلية فلسفية مثل عقلية ستوارت مل.

من الخيال للإرادة.

إنه لا يمكننا الحديث عن أي شيء يخص هذا العالم دون أن يكون من ضمن المتحدثين، الصمت ذاته، وما نظنه وليد الكلمة سنجده وليده أيضًا، على أنه ينبغي علينا النظر في مسألة الخيال، بكونها من عالم السكوت والوجوم وبقية المشتقات، ولا شك أن نداءً وجوديا للامل أو محاولة للتمسك بالذكريات لعلها لا تذهب لن يقوم بدور بطولي في تحقيقهما سوى الصمت، لأنه حينها إرادة عارمة، وهو ما ينبغي النظر فيه بتمعن كبير، فالموقف قد يكون يأسا أو رجاء، لكن الإرادة أي مواجهة الموقف وتجاوزه تنبع من صمت كبير، ولا أقول فراغ، أو عدم، أو فضاء بل صمت لأن الإرادة تقتضي الحياة أولا، وقد يعتقد الكثير أن أول لحظات الإنسان كانت حين ولادته وهو بذلك يجهش بالبكاء أي تقيض الصمت بمعنى من المعاني، لكن الحقيقة أن حياته قد بدأت بالصمت في رحم أمه وظل طيلة الوقت حينئذ يواجه ويريد.

للصمت بقية…

0 0 votes
تقييم الأعضاء
1 سارة بكويل، على مقهى الوجودية، بيروت: دار التنوير، 2019.
2 من رسالة لجون كيتس Keats, John. Letters of John Keats to His Family and Friends. Edited by Sidney Colvin. Project Gutenberg. https://www.gutenberg.org/files/35698/35698-h/35698-h.htm

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض