آراء أدبيةالآراء

حروب الشاعر وسلامه …

IMG_4322للممثل نسبة جيدة من قولنا “فنان” حيث التمثيل أي التظاهر والتخلي عن طبيعته والاندماج بدور في جزء من قصة على مسرح أو شاشة يجعله في أعيننا ممجّدًا لأنه يعيش حياة أخرى ، غير حياته ، ومثل ذلك العمل الذي لو فعله بحياته الواقعية لقيل عنه مخادع وكذاب أشر .
،
وبعيدًا عن المسرح الذي فقد وجاهته في ظل تنامي الشاشات ، فإن الممثل خلال أدائه للمشهد التمثيلي يمتلك فرصًا كثيرة لإعادته وتسجيله ، ومحاط بفريق من المدققين والمصورين ، لإنجاز العمل الفني ، ثم عشرات البرامج التقنية لتحسين الصورة وتنقية الصوت والتقديم والتأخير إلخ
،
وأما الشاعر فهو بعيد عن كل ذلك ويبذل جهده وحيدًا ، بأدواته ومهاراته ، وينجز إبداعه بمشاعره ، ولن يجد تلك الحفاوة ، لكن محور الموضوع ليس عنها بل عن الدور الذي يؤديه الشاعر ، في نصوصه ، وهل يكون قابلًا لدور الممثل الذي يؤدي عمله بلا دافعية من واقعه ، أي أن يكتب لكون آخرين طلبوا منه ، لا إيمانًا ولا حتى لتوافق الرؤى بل لكونه يجيد دور التمثيل ، أن يتبنى ثم يغيّر
وجهته بلا انطلاق من واقعه بل إذعان وظيفي .
نعم يستطيع لكن رداءة ما ستظهر في نصوصه تلك ، أهمها خفوت المعاني الجديدة وكثرة التكرار ، بسبب التساهل في صناعة الصورة وتوظيفها وعدم الاكتراث بمدى تماسك النص في ذاته ، بل سينصب الاهتمام في اكتماله وتقييمه مقارنة بما هو موجود مع رغبة المشتري ، أو ذوق المتلقي المخدوع …
،
إن المتنبي الذي قال في صغره تعبيرًا عن غيره حين طُلب منه ذلك:
أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاءِ
أنا ابن الضرابِ ، أنا ابن الطعانِ
،،
أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي
أنا ابن السروج ، أنا ابن الرعانِ
،،
ليس المتنبي الذي اتجه بشعره نحو ذاته دفاعًا عنها أو إثباتًا لدوافعها وحقوقها ورغباته وطموحاته بقوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
،،
فما قاله بالنيابة عن غيره ، كثر به التكرار وضعف البناء وجمود الأوصاف في حين الذي قاله تعبيرًا عن ذاته كان متفوقًا به
وان كان للعمر دور في تركيب وتطور البناء الشعري إلا أن الشاعر أيضًا يكون أعمق وأدق إذا انطلق من ذاته محققًا أهدافه هو بالنص ،
ونحن ننسج معرفتنا به من خلال نصوصه المعبّرة عنه أما التي كان بها مجرد أداة لغيره تعبيرًا فإنه يعكس رغبات وأهداف الآخر الذي لا نعرف عنهالكثير لأننا لا نعلم لأي مدى كان الشاعر المستأجر قد أجاد دور التقمص ولا نملك الكثير من النصوص عنه أما الشاعر في تعبيره انطلاقًا من ذاته ودوافعه فهو يحكي لنا الكثير ، ويحكي له الشعر أيضًا عن نفسه
فأصل الشعر أو دافعه الخفي هو التنقيب عن هوية أو ذات الشاعر المفقودة في الأعماق أو الضائعة في المحيط،
وللإنسان في وجوده مهمة التصادم والقيادة ومهمة الانسياق والإذعان ، أي أن الوجود لا يكون إلا من خلال مقاومة ما باتجاه ، وانكسار وانصياع بمسارات أخرى ،
وهو بهذا يسعى في تحقيق وعيه ، واكتشاف المتراكم عبر السنوات من تجارب ورغبات وإخفاقات وما يود وما لا يود ، في ضبابية تجعله ببطء لا يغادره حين يحاول ، والشعر من تلك المحاولات العميقة في التعرف على الذات
أي إدراك الحروب التي خاضها والسلام الذي صنعه ، والدفاع عنهما أو التحسر عليهما أو الرغبة بهما ، أو الانطلاق منهما أو حتى استخدامهما في مهام نصية جديدة تؤدي دورًا بحياته وظروفه الجديدة التي يخوضها
،
هذا هو الشاعر في نصه ، يعبّر عن حروبه وسلامه ، عن قيمته المحققة والأخرى الخاسرة ، فالنص الذي يصنعه وإن لامسه الخيال والترميز إلا أنه يحكي لنا موقفه من الأشياء بطريقة استخدامها وتصويرها وتوظيفها ، وموقفه من الأحداث ، بتأييد أو مناقضة ، وموقفه من نفسه ، بصدقه أو نفاقه ، ليكشف لنا عن شخصه الواقعي في تراكمات نصوصه ، ويقودنا نحو الإذعان له ، فالنص يصب برغباته المتجهة نحو التحقيق لا الخسران .
حين يقول المعري على سبيل المثال :
خفّف الوطء لا أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجسادِ
،
فهو لا ينصح ويعظ ويصور ويحكي فقط ، بل يكشف عن اهتمامه بالموت وحيرته من الكون وكآبته الشخصية التي لازمته بمعظم نصوصه شارحةً توجهاته واختياراته للألفاظ وتوظيف الأشياء ، ومبينةً شجاعته بالتعبير عنها
في وسط مخيف وفي ظروف صعبة ،
وعلى غير هذا ، يسير الفنان (الممثل أو حتى المطرب) إذ أن المطلوب منه هو تأدية/ تنفيذ المراد من الآخرين ،
وليس له في ذلك أي شيء من التعمق في ذاته أو الاكتشاف الخارجي أو صناعة الطريق أو إبراز آراءه أو رؤاه، فهو مجرد أداة لغيره .
بهذا يكون الشاعر المبدع الحقيقي (بفردانيته) وتقديم تجربته وذوقه وأفكاره وأساليبه اللغوية والإيقاعية لإقناعنا أو مهاجمتنا أو خداعنا أو الدفاع عنا حيث كل ذلك يصب في معناه هو (وجوده بيننا وتفاعله معنا) ، في حين الممثل ليس له سوى الاختيار بين الأدوار ، أيّ أداةٍ سيكون ولأيّ غرض ؟.
وحين يتنازل الشاعر عن تلك المساحة الكبيرة في براعة الاختراع والمواجهة والصمود ، وينزوي بدور المؤدي (كتابة الشعر لبيعه أو بالنيابة عن فلان بطلبه )
فإنه ينزل لمستوى الجمود المرحّب به في التمثيل ، أي أن تنفذ منك المطلوب تمامًا ولا مجال للرأي لا مجال للذات ،
لا حرية حقيقية في تلك المهمة ، وهذا طبعا لا يعني أن موقف الشاعر في كتابة نص طوعي منه على لسان شخص آخر ينساق فيما سبق حيث حينها يكون قد اختار وانطلق من تأثّر أصابه في عاطفته ولامس جزء من ذاكرته وانطلق منه للتعبير على أقل الأحوال لتبيان موقفه من الأشياء والوجود ومعانيه .
نحن نتعلم من خطواتنا السابقة ، الاستمرار والمضي ، هكذا تقول لنا الحياة ، وتجارب الممثل تدعوه لمزيد من إتقان دوره بالتأدية ، أما الشاعر فنصوصه السابقة تدفعه بالسير نحو أعماقه أكثر وإلى الوجود مواجهةً وإذعانًا بشكل أعمق وأدق .

…..

آراء أدبية :
حروب الشاعر و سلامه
عصام مطير البلوي

،
الرسمة الملحقة
The Cliff, Etretat, Sunset ~ للفنان Claude Monet

0 0 votes
تقييم الأعضاء

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض