القصصية بالشعر ..
الشعر حكاية ، نمنحها عمقًا بتوظيف الطبيعة في غير المعتاد منها ، وبُعدًا طربيًا بإيقاعات الوزن وصوتيات الحروف الموزعة بشيء من التنظيم ، وشاعريةً بتضخيم اللحظة وتفصيلها أو اختصار الزمن وإزاحته من عرشه .
تأتي القصصية بالشعر العربي في مقدمة عناصر الجذب والشاعرية وهي منقسمة بين ما هو مادة اجتماعية معتادة يقوم الشاعر باستغلالها في نصه ويتحدث عنها إما لأنه عاش تجربتها أو واصفًا لها وإما ليزيحها من مقامها المعتاد ترميزًا أو توظيفًا لها بغيرها ، وبين ما هو مادة خيالية منسوجة تمامًا من الشاعر وليس لها حقيقة سابقة .
1.القصصية مادةً اجتماعية/واقعية:
قد تأتي بأجزاء من النص لتوظيف معنوي أو يكون النص متحدثًا عنها بالكامل ، كقصيدة نزار قباني أيظنُّ ومنها هذه الأبيات:
حمل الزهور إليّ .. كيف أرده
وصباي مرسوم على شفتيهِ
،،
ما عدت أذكر .. والحرائق في دمي
كيف التجأت أنا إلى زنديهِ
،،
خبأت رأسي عنده .. وكأنني
طفل أعادوه إلى أبويهِ
،،
حتى فساتيني التي أهملتها
فرحت به .. رقصت على قدميهِ
،،
سامحته .. وسألت عن أخباره
وبكيت ساعات على كتفيهِ
وقد استخدم نزار مادة قصصية تحدث لبعض للنساء حين يعود إليها من هجرها في النص السابق ولم يزحه من مكانه ليرمز لمعاني أخرى ، ولنزار نصوص كثيرة تعتمد بمعظمها على قصص اجتماعية معتادة بالغراميات ، نقلها لعالم الشعر وشكّل بها منهجا كبيرا من شعره وأسلوبه ، وقوة نصوصه قادمة من كونها تحكي مواقف غرامية كثيرة لم تنتقل للشعر إلا تلميحًا في حين قام هو بنقلها بقصصيتها ومنحها مكانتها في الظهور من خلال حكايتها بتفاصيلها.
وقد تتجه القصصية بالشعر بشكلها الممتد من الواقع إلى مشهدين وأكثر لتجسيد الوقائع وإبراز موقف الشاعر كما فعلها محمود درويش في نصه
عن إنسان ،
وكان نصّه ذاك قصيدة أحادية الشكل والوزن ، حرة التفاعيل على البحر الكامل
القصيدة تكونت من
١.وصف قصصي :
وضعوا على فمه السلاسل
ربطوا يديه بصخرة الموتى ،
و قالوا : أنت قاتل !
أخذوا طعامه و الملابس و البيارق
ورموه في زنزانة الموتى ،
وقالوا : أنت سارق !
طردوه من كل المرافيء
أخذوا حبيبته الصغيرة ،
ثم قالوا : أنت لاجيء ..!
ثم
٢.التفات وخطاب وحكمة :
يا دامي العينين و الكفين !
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
و لا زرد السلاسل !
نيرون مات ، ولم تمت روما …
بعينيها تقاتل !
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل
،
هكذا كان النص من مشهدين ، مشهد يصف شخصية البطل بالنص ، ومشهد يدخل الشاعر به النص ليخاطبه
وتوزيع القوافي بالنص كان رائعًا ، ووزن البحر الكامل منح النص موسيقى يشعر بها أي قارئ وهي من مزايا هذا البحر بالشعر
والقصصية هنا مزاحة من مادتها فرمزيتها تتجه للأسير والمهجّر الفلسطيني ، الاستشهاد التاريخي بنيرون وروما ، إشارة لزوال الطاغية وبقاء الوطن ، والتحول لموت السنبلة التي تملأ الوادي سنابل أي أن الموت لقضيتنا يحييها
2.القصصية مادةً خيالية :
هذا النوع من القصصية ، يحمل شاعرية أعظم وتحديات أكبر أيضا للشاعر لتكوينه ، فهو يخترع قصة بشخصياتها وعناصرها لتؤدي المعاني التي يريدها مع تحويل النص لوضع موسيقي ، أي أن يكون منظومًا وحاملًا لكل خصال الشعر العربي في توزيعه للقوافي أو التفاعيل إلخ
والمثال على ذلك :
قصيدة : مقتل القمر ، وهي قصيدة أحادية الشكل “حرة” وموزونة على البحر الكامل
التقنيات الموجودة: القصة ، الحوار ، الرمزية ، المفاجأة ، وهي تقنيات قصصية
،
بهذه القصيدة تكلّم أمل دنقل عن مأساة المدينة في ابتعادها عن الطبيعة ، جسّد هذا الموضوع الضخم بنص شعري فريد على شكل قصة ..
،
القصصية بالشعر أيضًا تأخذ شكل الموقف ، فالنص الذي يقوله الشاعر في أحوال المديح أو الهجاء مثلًا قد يأتي بقصصية مضمرة فيه قادمة من الموقف المثير والحدث ، وبالتالي فشاعرية النص أيضًا تستند على القصصية ،
والمثال على ذلك قول الفرزدق ردًا على هشام بن عبدالملك الأموي حين اشتد الزحام بالحرم ولم يجد تلك الحفاوة والرحابة به ليلمس الحجر الأسود وبينما هو كذلك فإذا بالناس يفسحون الطريق لزين العابدين علي بن الحسين فسأل أحدهم مستنكرًا هشام عنه فقال لا أعرفه
ومنها هذه الأبيات :
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
،
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ،
هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ
،
هذا ابنُ فاطمَةٍ، إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ
بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا
،
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه
العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
والنص في خطابه وإن كان مباشرًا إلا أنه كسب شاعريته من خلال الموقف القصصي الذي سبقه فحمل معنى القصصية بمناسبته
وبهذا فإن النصوص الشعرية كلما كانت مستندة على قصة تحكيها أو تشير إليها فهي بشاعرية أعلى وجاذبية أشد.
عصام مطير البلوي
الرسمة الملحقة للفنان الأسترالي Graham gercken
