حين انتبهت لحقيقتي ..
مهادنة الألم ، ومعانقة الرماد ، والصمت المتسلط الآمر الناهي ، وحديثي النفسي الجبان المنهمر بأعماقي ، والذاكرة الغاضبة ، والرحيل والقفول ،كل ذلك جزء من تغيير كبير بدأ حين أدركت أنني مجرد reflex (ردة فعل لا إرادية) للظروف .
لقد استحوذ عليّ الخيال فترة طويلة حين انتبهت لحقيقتي.
في الربع الأخير من عام 2012م ، اتخذت التناقضات التي أعيشها وتشكلتُ منها قرارَ التصادم فيما بينها ولم أستطع بكل ما أوتيت من إعجاز وغرابة أن أجعل قافلتي تسير كالمعتاد لأؤخر لحظة التصادم كما كنت آمل إلى لحظة الموت في مشيبي ، أو كما كنت أعتقد أن الظروف ذاتها ستتساقط بفعل الزمن قبلي أي كما يقول المرء منا “إلى أن تنفرج”، وقد زاد المرارة مرارةً إضافية أنني لم أعد حينها قادرًا على ضبط شعوري ، درجته وموقفي منه ، وهي حالة تشبه كونك فجأةً استيقظت بجسد غير جسدك ، وعقل يشعرك بالخوف من كونه لا يتجه باتجاهك ولا تعلم إلى أين يسير …
كنت أعتقد أيضًا أن الصدمات الكبرى اللائي جئن معًا تسببن علي بالضرر الذي دفعني للانكماش الوجودي والجنون البارد المتمثل بالصراع مع الألوان والروائح ، لكن مرور السنوات ، والتداوي بالشعر وانغماسي بالمعرفة هربًا من الخيالات ، ومراقبة كل همسة ، عابرة ، وأثرها ،
أيقظ وعيي النائم الخامل التعيس الكئيب وأقام قداس الحياة لأفهم أنني وجود لا ينبغي أن يترك هكذا وفق ما تريده الرياح والأعاصير وما ترسمه التضاريس والخرائط ، لأن أي وجود يعني إرادة ، وكل إرادة لتحقق بقاء كيانها لابد أن تدار من العمق ، من العقل الذي صُمّم ليحمي وينطلق بصاحبه للأجمل ، لا ليكون أداة ينميها مزاجٌ كونيٌ متقلب.
يتعلم لاعب الكاراتية حركات الدفاع من خلال حفظها بالحركة ، يكررها يوميا لتكون ردة فعل تلقائية خلال الاشتباك ، دون الحاجة للتفكير والتوجيه والوعي بها ،
ونحن أيضًا تعلمنا معظم حياتنا هكذا ، عقولنا تتركب هكذا لكن الفارق بيننا وبين لاعب الكاراتيه أنه صمم “عقله” بنفسه ليكتسب مهارات الدفاع عن الذات بتلقائية نفسية بعد جهد طويل “مقصود” في حفظ التمارين وتدريب ذاته نفسيا وعضليا على تطبيقها ، أي أنه قاد إرادته نحو إرادته .
في الشعر والشاعرية ، معظم الشعراء امتداد لظروفهم ، فكانوا من أهل القوافي لأن محيطهم حكم عليهم بذاك ، لكن درجة موهبتهم وسعة قدرتهم مسألة أكثر تعقيدًا من كونها انعكاسا للمحيط ، فثمة أمور جسدية عميقة لها دور ، و”جهد” مقصود بالتعلم وتطوير الموهبة كما يفعل لاعب الكاراتيه مثلا …
قدراتنا في أي مجال ، هي تراكم خبرات وإمكانيات ولياقة قادمة من الاستمرار ، وحب وميول يتمثلان بالقابلية لأن نكون قادرين على فعل معين بشكل مدهش وممتع أو حتى ربما بحثًا عن السرور الذي يتلو أي مشقة ، كأسلوب عن التعبير عن بطولتنا في كوننا “نستطيع”.
نحن نقاوم ونتعلم مما نقاومه ، فنبني طريقة تفكيرنا ، أسلوبنا مذاقنا ، الزاوية التي ننطلق منها ، ولأن الإنسان مجبول على مقاومة كل شيء مهما صغر أو كبر فهو يتعلم أيضًا منه ، أي يتشكل ويبني ذاته ، شعوره النفسي ، وعيه ، إدراكه العميق ، مما مر فيه ، ومن خلاله ، ولقد نشأ جميعنا بهذه الطريقة ، لكن قلة منا استطاعوا توجيه عملية التعقل ، الشعور بكينونتهم ، من خلال توجيه عملية البناء والتصميم هذه ، ليتفادوا أن يكونوا عرضة للانهيار بفعل الظروف ، التصادم الذي ربما حدوثه لا يعني النهاية أيضًا بل الاستيقاظ من فشل التفكير التلقائي والانتقال لتصميمه من جديد .
لقد كانت اللغة السلاح الأول الذي قاوم به هذا الإنسان تلك الوديان والجبال والهضاب والتلال والصحاري والقفار والأنهار والبحار ، كانت السلاح في مواجهة الغرابة والحاجة ، والخوف والعذاب …
قد يظن الكثير اللغة ليتواصل البشر ولكننا لو نظرنا بعمق فإن اللغة لكي نقاوم ما يهدد بقاءنا بهذا العالم..بقاؤنا من خلال تواصلنا وتواصلنا من خلال لغتنا
إذاً إن أولئك المهددين المحاصرين بالمهالك والخطوب هم الـمُحَفَّزون بشكلٍ أكبر وأعظم للتمسك بسلاح اللغة وتطويره وترقيته وبلوغ منتهاه وغايته ، وهم الأكثر تشبثاً بالحياة من خلال المواربة والغموض والتخفي ومع كل هذا فكل أزقة الحياة وطرقها الضيقة وفِجَاجِها محفوفةٌ بالسيوف والخناجر ،
وبشكل أدق فإن الشعر ، يمثل حالة انتباه لحقيقتنا ومقاومة لها ، حراك ثوري منتفض يشير إلى أننا لا نعي حقيقة وخطورة أننا نحيا وفق الظروف ونتشكل عقليًا ونفسيا بناء على مزاجها وما تريده لا وفق إرادتنا ، شعورنا العميق جدا بأننا نتحكم ونتحرك ونتجه بمشاعرنا وعواطفنا وسلوكياتنا .
حين انتبهت لحقيقتي ، استحوذ عليّ الخيال فترة طويلة …
وتآكلت وتجردت وتطهرت ، ثم اكتشفت موهبتي بقراءة الخيالات التي تشع بها الأشياء من حولي ، ويا لها من موهبة !
عصام مطير البلوي
الرسمة الملحقة للفنان الصيني
Luo Zhongli مواليد 1948