آراءآراء اجتماعية

الغناء والموّال والتاريخ المتدفق..

من الهابيتوس إلى هرقليطس: قراءة تأويلية في الأغنية العربية

“يا ظريف الطول حوّل عندنا ” بغناء الفنان القدير سعدون جابر1، أثارت شعلةً من التأمل الرمزي في تشنيفه مسمعيَّ ، حيث أقام بصوته “الشعور” بالتراث المكاني، وهذا ما يقدمه المطرب بلهجته حين الاستماع له، فهو ينقل لنا الشعور المنسجم مع الكلمات التي جاءت من إقليمه، وبالتفاعل معها نكتشف الروح الفنية بصفتها امتدادًا للمكان، والتاريخ وبلغةٍ من الممكن وضعها بقالب المعرفة اليوم، إنه الهابيتوس الذي تكلم عنه بورديو ”«المجتمع مكتوب في الجسد، في الفرد البيولوجي نفسه»2.

إن الألحان التراثية والقصائد القديمة متوارثة ليس لأنها مجرد موسيقى رائعة أحببها الأجداد بل لأنها انعكاس لذوقهم (الذي هو جمالي/ثقافي) و طربيتهم (التي هي عرقية مكانية) اللذين ورثناهما أيضًا ليس فقط وفق مفهوم بورديو بفعل المجتمع نفسه بل إنني أرى ذلك أيضًا عبر جيناتنا الجسدية المتفاعلة وفق اشتراطات الحياة مع المجتمع  وفعل المكان أعني تضاريسه وطقوسه، إنه تفاعل بين الجسد بصفته عرقا وبين الإطار المعرفي المشترك بصفته فاعلية تاريخية مدونة وأخرى متدفقة تجري كذلك في الأجساد بنطق لا نعيه وبالتالي فإن الموسيقى المحلية هي أيضًا مظهر من مظاهر التاريخ بتمامه، الذي يشير لنفسه عبرها ويقول لنا : 
أنا هنا، حي وأعمل باستمرار، في كل الذوات. 

▪️إن التاريخ في تأملي له يشبه ما يقال عنه (اللا وعي) (اللا شعور) الذي تتحد فيه كل الأزمان : الماضي والحاضر والمستقبل، وهو إذن بين تاريخ مكتوب مدون ملحوظ يمثّل الوعي أي ما ندركه عنه عبر الروايات الشفهية والمكتوبة وطرق التربية وأساليب التعامل المحببة وتلك المنبوذة بقيمنا التي نتحدث عنها ونتقاطع معها أو نخالفها لنعود إليها بعد ذلك ،وتاريخ مبطّن آخر، متدفق، لا ينثني ولا تجري عليه صيغ الزمان للفعل : الماضي، الآني، المستقبلي…

وبهذا فالتاريخ بالفن حين نتعمق – في ملاحظة نوع الموسيقى والتوزيع وطريقة الظهور للنص (الموّال ثم الغناء والرقص) – يكشف لنا سماتنا وصفاتنا القومية والمذهبية والمكانية والوجودية في هذا التاريخ المتدفق . 

▪️إن الموّال مثلا ببداية الغناء و أحلناه إلى تكوينه في الاستهلال والبدء والاتجاه، هو الشيخ أو القائد الذي له مكانة خاصة مقابل الأتباع (بقية النص) وهو يمثل أيضًا لحظة اختيار أهم ثلاثة فرسان بالجيش لبداية المعركة بمبارزة مع أهم ثلاث فرسان آخرين من الخميس الآخر. 
إذن الموال بالبداية صفة العصور القديمة، هو امتداد للقبيلة والمعركة وهو أيضًا وجودي في هذا التنظيم، إنه يكتشف العالم ببطء، وبه يبرز الفنان، صوته وإمكانياته بأجمل وأجود ما فيها  ممثلا بذلك المجتمع المتجسد فيه، والتاريخ الذي يعمل على إبراز ذاته من خلاله، وهو بهذا القائد، وأب الأسرة الذي يتقدم ليكتشف المجهول، ويؤسس لحظة التحول إلى طرب الحياة ونداء الكبار للصغار، وإعلان القرار.

لكن ماذا عن الموّال بمنتصف الأغنية؟ 

هنا يكون الموال رغبة البسوس للقيام بفتنة جديدة، لتشعر بقيمة الموت الذي تكبدته العرب والثأر للحياة ذاتها إنه لحظة الإصرار على النشوة حينما تمتنع البداية من تحقيق أهدافها، وبالتالي فالموال بمنتصف الأغنية أراه أنوثة ترغب المزيد من الإثارة وهو تعبير عن دافع الاستمرار بالحياة رغم تأرملها بمقتل زوجها بالمعركة إنه بذلك أي الموال في منتصف الأغنية يؤكد البقاء وحسّ المسؤولية في التغيير والانتقال لذلك كثيرًا ما أجد الموال بمنتصف الأغنية وفق قراءتي الرمزية وتأملاتي الخاصة يسقط به المطربون بأدائهم لأنه ضد الذكورة التي من طبعها الاكتشاف والتضحية بفعل النسق التاريخي المعتاد لتدفعها هذه الشجاعة إلى تفضيل الموت على أن تعود للبدء من جديد غالبًا
أما المطربة بفعل انوثتها وما حققه لها وجودها في هذا التاريخ المتدفق في وعينا العربي المتوارث، حينما تهدئ رتم الأغنية وتمد صوتها بموال أو شبه موال في منتصف الأغنية فإنها تنطلق من عادتها بتكرار المأساة عبر الإثارة (من الممكن الاستماع لأغنية سميرة توفيق مثلا حبيبي ضمني ضمة)3، 
وهذا الرأي الأخير عن الموال بالمنتصف، قابل للتطوير أو النظر لكون الموال بالمنتصف نادر عند العرب لذكوريتهم مقارنة بأمم غيرهم كما أزعم ، وسنكتشف الكثير بالمقارنات وبالدراسات  مع احترامنا لفاعلية الكلمات وإمكانيات الموسيقى، وقد يدخل أيضا في هذا التفاضل: الذوق الذي يعبر أيضا عن شعور جمالي مكاني واجتماعي يحقق وجوده بحدود هذا اللاوعي التاريخي.

ما الأغنية؟ ماذا تحقق؟ ماهيتها عند العرب اليوم؟

تقدم الأغنية بصفة عامة مبدأ يظهر في التاريخ المتدفق متحديا لأطروحة هرقليطس كما ينقلها أفلاطون عنه في (كرايتلوس)  “إنك لا تنزل النهر نفسه مرتين“4، عبر قيامه بإنشاء لحظة طربية جامعة بين الشاعر والمتلقي، من خلال الموسيقى وأداء المطرب، أجد أنَّ شرح هذه النقطة سيكون موفقا عبر أغنية طلال مداح (انتهت القصة)5 وتشريحها وخصوصا بالفقرة التي يصدح فيها طلال بصوته المعبر عن المكان وتراثه وبكلمات تشير للهجة المجتمع وتشكيلاته :

لا تحاول إني أرجع ، ما في داعي للرجوع..
لا تحاول إني أخضع، قلبي ما يرضى الخضوع،،،

إن قول الشاعر: “لا تحاول” يمثل شعورا عاطفيا موعى به (لن يتكرر) عند غيره كما يعيشه هو ولن يتكرر أيضا عنده كما كان لأن تجربة اللحظة الشعرية عند النظم لا تكون كما هي بل تتغير إما بزيادة أو نقصان أو معرفة جديدة أو موقف مغاير، وهذا مفاد ما يمكن ان يحققه قول (هرقليطس) ،  “إنك لا تنزل النهر نفسه مرتين“
لكن الموسيقى الغنائية وأداء المطرب يحاولان  إيصالنا لخوض النهر بقيمة تجريبية مماثلة، 

فإذا كان الشعر هو تعبير عن الذات بلحظة عاطفية كبرى للشاعر فإن الغناء هو محاولة لجعلها مشتركة وقابلة للتكرار، ليس للشاعر فحسب بل للمستمع، الذي سيجد أن الموسيقى قد كبّرت بمجهرها: الكامن بالنص وأظهرته، ليعيش هو تجربته الخاصة بكلمة شاعر (قد لا يعرفه) وبغناء يدفع ذهنه للاستغراق وكأنه يخوض النهر مرتين، فهو الشاعر الآن وهو تجربته نفسها، وبشعوره الحاد ذاك، وهكذا قُتِل (هرقليطس) أو الفلسفة والتفكير بيد الحقيقة بوجودها الآخر عبر الولوج لعالم أنشأه الشاعر ظاهرا وشيّد بابه المطرب بغنائه لكنه في قالب التاريخ المتدفق الذي يكشف لنا عن خصائصنا ورغباتنا وطرق تفكيرنا وما نحمله في أجسادنا وهكذا كانت الأغنية خروجا من عالم محكوم بذاكرة في عالم الماضي إلى عالم بلا زمنية نعيشها فيه وكأننا نحقق وجودها لأول مرة، وليس هذا القول خاص بأغنية طلال فقط فهي شاملة أغنية سعدون جابر وغيره، إنها ظاهرة الغناء في وجودنا وتفاعلنا.

▪️”لا تحاول إني أرجع، ما في داعي للرجوع”
يحقق الشعر مفارقاته للواقع وتمكنه من صياغة مشاعر ضد مشاعر، لينطلق في فضاء العاطفة والانفعال، متجاوزا ثنائيات متصارعة في العمق فقول الشاعر” لا تحاول”، هو بالوقت ذاته ” أرجوك حاول”، 
فالنص يخفي في طياته نقيضه الذي يحقق صراع العاطفة، فالرغبة بالرحيل ليست سوى التردد بالبقاء، وقوله “لا تحاول” ليست هي أيضًا سوى التردد بقوله “أرجوك حاول” لكن الشعر يخفف الجراح ويمنح الكبرياء عادة ظهورا يليق بالعاطفة الجريحة، وحين النظر في ظهورها غناء نكون قد التقينا أيضا مع ذواتنا شاعرين بتجربة مماثلة توصلنا للوعي بلحظة الشاعر التي لن تكرر إلا من خلالنا، عبر الغناء نفسه.
إن الاستمرارية بالغناء هو انهماك بسرد يأتي بلا زمنية مماثلة لزمنية الحكاية، والواقع برمته، لأنها أيضا تجسد التاريخ المتدفق بتفاصيل محايثة عبر الشعر بصفته نواة العالم الذي قفزنا فيه عبر الموسيقى، وحينها نحن محكومون بتجربة الشاعر نعيشها ونقترب بالوقت ذاته من وعينا بالضمني النابض في  ضلوعها وللشعر كما نعلم أساليبه بمقروئيته نصا لكنه بالغناء يحتكم أيضا للتوزيع الموسيقي وصوت المطرب ولحظة الإصغاء.
يستمر طلال بغنائه فيطربنا بانتقاله إلى:

لا تحاول
مني تقرب، الأمل ما له شموع..
لا تحاول
إني أبكي، انتهى عمر الدموع”

نستشف من “لا تحاول“، أنها بنص شعري يؤكد عمق الجرح والرغبة بالخلاص منه، لكن الشعر لا يصل لهذه اللحظة إلا لأنه لقاء كبير بين الشاعر ومن يحبه، فعملية النظم هي خيال ووعي ضخم بالآخر لدرجة أن النص الذي هو عالم آخر من الوجود مكتظ بالحبيب، ويوجه الخطاب له، فلا تحاول هنا، هي تأكيد وجود الحبيب الكامل بالذات، ومثل هذا النوع من الشعر وكلماته ليس سوى تعبير عن اقتراب كبير، لا تحاول مني تقرب، (وقد اقترب بالفعل في واقع الشعر الى ما لا يميزه الشاعر عن وجوده سوى انه ينظم كلمة لا تحاول، صوته فقط)، وما يفعله الغناء هو تعميق وعينا بها.

“لا تحاول إنّي أبكي”، ؟!! 

كل هذا الشعر بالنهاية هو الأفق الأعلى للدموع والقول “انتهى عمر الدموع”، أي بلغنا منزلة الشعر، ارتقينا بأحزاننا من الفيزياء إلى الوجود الأعظم، وهنا يجدر الحديث عن الشعر بكونه هوية العرب، أو كما يقال الشعر ديوان العرب، لتصبح الأغنية تجسيدا للمشترك القومي بين أمة مترامية الأطراف، يعمل الغناء بإحياء هويتها الرابطة جنبا إلى جنب مع عوامل اجتماعية أخرى تمثل جميعا تاريخا متدفقًا لا نعيه لكننا بمزيد من التأمل العميق نجده يشير من بعيد إلى وحدة عاطفية لغوية ومكانية وجسدية تنظر في أفق الوجود عبر الغناء، وتختلف في تفرعاتها وموسيقاها بناء على الثراء التنوعي لهذا التاريخ.

للحديث بقية ..

0 0 الأصوات
تقييم الأعضاء
1 سعدون جابر، «ميجانا و عالميجانا»، من ألبوم خيوه، أداء سعدون جابر، (Al-Nazaer Media Group، 5 نوفمبر 1988)، ملف صوتي (streaming)، Spotify، ‏https://open.spotify.com/track/5yI0tKL4o9SXmqSbt1W0h5
2 Pierre Bourdieu, In Other Words: Essays Toward a Reflexive Sociology, trans. Matthew Adamson (Stanford, CA: Stanford University Press, 1990), 63.
3 سميرة توفيق، «حبيبي ضمني ضمة»، كلمات محمد الفهد العيسى، ألحان طارق عبد الحكيم، في ألبوم Habiby Domeny Damma 2، أداء سميرة توفيق (بيروت: Mazzika/Global، 2016)، ملف صوتي (streaming)، Apple Music، ‏https://music.apple.com/us/album/habiby-domeny-damma-2/1106531085.
4 هرقليطس، كما ينقله أفلاطون في كرايتلوس 402a: انظر أفلاطون، كرايتلوس (Cratylus)، 402a، في: André Laks and Glenn W. Most، Early Greek Philosophy, Volume III: Early Ionian Thinkers, Part 2، Loeb Classical Library 526 (Cambridge, MA؛ London: Harvard University Press، 2016)، ص 168–169؛ وانظر كذلك: Daniel W. Graham، «Heraclitus»، The Stanford Encyclopedia of Philosophy، Fall 2019 Edition، تحرير Edward N. Zalta، ‏https://plato.stanford.edu/archives/fall2019/entries/heraclitus/.
5 طلال مدّاح، «إنتهينا وجفت الدمعة (خلصت القصة)»، أداء طلال مدّاح، ملف فيديو، YouTube، ‏https://www.youtube.com/watch?v=8fUSXOkoc3w

مقالات ذات صلة

الاشتراك
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
الأقدم
الأحدث الأكثر تصويت
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض