آراءآراء أدبية

“أقول” ونداء الشاعر

إن الانعطاف من فكرة لأخرى يثير شعورنا بالحركة التي هي بدورها تضمن بقاء الزمن في وعينا، وتؤكد حيويتنا، وإذا كان ذلك يحدث على مستوى الأفكار المترابطة فيما بينها، فإنه يكون أشد ما يكون في حال الانتقالات الكبيرة،بين مجالات مختلفة فمثلا موقف الرعب المفاجئ يوقظ جهازنا العصبي فكأنه موجة شديدة من الحيوية تتمثل بتمسكنا بها أيضًا.

إن لحظة الدخول بالنص، هي لحظة الانعطاف الذهنية والتغيير في وظائف الوعي الشعورية والتفكيرية، لقد كنت قبل أن أتجه للقراءة في توزيع ذهني مختلف تماما عما هو عليه الآن، وإنّ التحول يحوي في طياته استشراف واستقبال إمكانية تحقيق غرض سمعت من غيري أنه يأتي من خلال هذا التحول أو من تجربتي الماضية أو حتى باستنباطها ضمنيًا من تجارب مغايرة، فالتوجيه الذهني لحظة وقوعه يريح النفس خاصة إذا ما كان في صنف القراءة أو حتى الكتابة التي تعلو على الأولى في كونها أشد تخلصًا من الشتات وأعمق تركيزا في اللا مرئي من خلال التركيز بحركة اليد والكلمات المكتوبة وصرف النظر عما سواهما مع الإصغاء والحركة في عالمي الخاص والأنا، لقد اتجهت لا مرغمًا بل مختارًا، وهذا في ذاته لذة خفية للأنا وتنفس لها من خلال التأكد بأني أحقق اختياري، وقد أخذ الجسد وضعه الذي يناسبه ، ويأتي الوعي ومكوًن التفكير الواعي في صفحة المعنى الذي أشعر به، وهذه اللحظة كلها تختلف وتتفق مع لحظة وقوع الكارثة أو الهلع،لكنها ممزوجة بلذة جمالية معتبرة.

ينبغي النظر بأن لحظة الشعر الأولى نظما ليست هي إصغاءً، فالنظم كثافة الإلهام به وسيطرته على الشاعر أكبر من وجوده حال الاستماع لقصيدة شعر، ونحن هنا نريد تحليل شاعرية النص بالذات المصغية وكذلك بجوانب من الذات الناظمة، لننظر الآن لأول كلمة بقصيدة قطري بن الفجاءة الشهيرة:

أقول لها وقد طارت شعاعا 
 مِنَ الأَبطالِ وَيحَكَ لَن تُراعي 

فَإِنَّكِ لَو سألت بَقاءَ يَومٍ
على الأَجَلِ الَّذي لَكِ لَم تُطاعي

قطري بن فجاءة 

يهمنا بنصه هذا مطلعه، وتحديدًا “أقول لها”، وهي منبع شاعرية البيت ، فحين نبطّئ عملية معالجة النص الشعري، سنبصر الحركة الذهنية العاطفية المزدوجة : 

▪️ مستوى الموسيقى لم يظهر بعد بالمطلع لأننا مازلنا في أول كلمتين، ولن يظهر الشعور الموسيقي بوزن الشطر الذي نسمعه إلا بـ (وقد طارت) ثم بعد ذلك يكتمل وعينا الموسيقي بـ (شعاعا) ليصبح البحر الوافر وزنا : محسوسا بموسيقى لحنية من إيقاع الحركة والسكون للحروف، وبالتالي فإن شاعرية (أقول لها) لم يكن للوزن/الموسيقى/الإيقاع أي دور فيها اللهم بكون ”أقول“ تشي ببداية إيقاع مقبول، ثم إنها تواكب تحولنا نحن للنص، ذلك التغير الذي يحدث بأذهاننا نحو فكرة مغايرة عما سبقها بنا، وهذا ما يحدثه الانعطاف.

▪️جاءت شاعرية (أقول لها) من العلاقة بين الرجل والمرأة، فهي أول ما يخطر ببال أذهاننا حين سماع كلمة (أقول لها) بالرغم من ان الشاعر سيكشف لنا ضمنيا أنه يخاطب نفسه، وهنا يبرز الحس الغرامي بجملة (أقول لها) ، والإثارة الكامنة في أنفسنا نحو الطرف الآخر، والفضول الذي يدفعنا لمعرفة قصص الآخرين، وهذه الرغبات والأفكار هي جاهزة في نطاق ما قبل الوعي، ومحاذية ولاصقة سرعان ما تُستدعى ثم تُخفى أو تُبعد عن الانتباه لها لتعمل في نطاق الشاعرية خلف ستار. 

 ▪️المخاطَبة، من الممكن فلسفتها بأنها اقتراب، أيًا كان شكله، أخاطب فلانا ليفهمني، أي ليقترب من فكري وأقترب منه، أخاطب غيره لأتقي شره أي ضمنيا ليقترب مني بسلم (البعد عني هنا ) هو (قرب مني بطريقة أخرى)، فكل خطاب هو اقتراب ، 

وحين يكون مطلع النص : (أقول لها)  فإنه يُشعرنا بأمرين: أنهما قريبان من بعضهما، وأنه يريد الاقتراب  أكثر.. 
والشعر أيضًا ضمنيا هو خطاب نحو المستمع والقارئ، وبذلك يصبح الشاعر بقصيدته مخاطبا لنا، أي أنه يريد الاقتراب منا ويريد اقترابنا منه، عبر إفهامنا فكرته : 
(وقد طارت شعاعا ..مِنَ الأَبطالِ وَيحَكَ لَن تُراعي 
فَإِنَّكِ لَو سألت بَقاءَ يَومٍ
على الأَجَلِ الَّذي لَكِ لَم تُطاعي) 

▪️عبقرية هذا النص بهذا المدخل الشاعري: لتلقيننا حكمة، وتبيان ما يريده الشاعر عبر مخاطبة ذاته من خلال (أقول لها) وهي في ذاتها مخاطبة لنا ( أقول لكم أنتم ….) بما سيصل لأرواحنا من معنى بعد إدراك الفكرة المرادة في هذا القالب الشعري، وهو ما نتلقاه نحن بلا جهد.

ولو تأملنا كلمة ”أقول“ لوجدنا نداء الشاعر نحونا بالانتباه إلى وجوده هو، بفاعلية الموقف الذي يحكيه، وهو ما يجدر النظر فيه، هل الكلمة ذاتها تحمل شعرية بذاتها كونها من أفعال البشر، فلفظ ”أقول“ لابد أن تكون مرتبطة بالإنسان، في حين لو وضعناها لتخييل مثلا ” تقول الشمس“ لكسبت الشمس شاعريتها من شاعرية الفعل المرتبط بالإنسان، أي بالذات والنطق الذي هو أهم ما يميز الإنسان عن غيره، وهو أمر جدير بالتأمل حاله حال ما يقال عنه أن هناك أشياء تحمل شاعرية بذاتها كالقمر مثلا مقارنة بالفأس، فالقمر أقرب للطبيعة من الأداة وبالتالي فإن شاعريته أعلى وهو أيضا ما نعنيه بأن كلمة ”أقول“ على لسان شاعر ستكون أشد شاعرية من كلمات مثل ”أقترب“ أو ”أبتعد“ مع ملاحظتنا بأن السياق له تأثيره الشعري لكن اللفظ ذاته يحمل شاعرية خاصة يشارك بها.

لنرى ”أقول“ بمطلع قصيدة التمثيلية لنزار قباني:

أقولُ أمام الناس لستِ حبيبتي 
وأعرف بالأعماق كم كنتُ كاذبا 

نزار كان يحكي لنا في المطلع منذ أول كلمة “أقولُ” ، وأول حرف “ألف المضارع”: وجوده، والاتجاه إليه،
علمًا بأن أي مطلع بالنص الشعري هو اتجاه نحو الآخر، فأنا إذ أقرأ نصا شعريا أو أستمع له إنما أخرج عن ذاتي وأبدأ التفكير معتبرا نفسي شخصا مختلفا أو على الأقل أتذوق الحياة بلسان غيري وأقارنها ضمنيا بما أتذوقه دوما وأشاهده، وهو تحول في ذهني، كما أسلفت.

نزار بدأ نصه على البحر الطويل بالشعر العربي، بكلمة “أقول” وليس “يقول” وهنا نحن سنتجه نحوه هو مباشرة لأنه يحكي عن نفسه، وبالتالي فإن الفضول كبير لمعرفة ما يقوله، وبالطبع أعظم معنى للفضول أن تعرف من يحب هذا الذي أمامك؟ 
فمن خلال من نحب نعرف أنفسنا، حبيبك هو المدخل إليك ولذاتك العميقة (اللاوعي) لا ما يعتقده فرويد مثلا عن الحلم بأنه الطريق الملكي إليها،فمن خلال الحب يتجلى الكامن، ويستطيع الشعور العاطفي بالتفوق على حواجز المنطق لتظهر الصفة الجديدة عنك عبرها وهي صفة قديمة فيك لم تعرفها، وإن الشخص(الذي هو الفرد بالمجتمع)  بدأ بالنص من خلال (أمام الناس) إذ أن “أقول” تتجه لهم، والإنسان(الذي هو الفرد بالذات)، بدأ بمحاذاة “فعل الإخبار” بأن يقول أمام الناس ، ويبرز في قوله “وأعرف بالأعماق” ويظهر الصراع بين الشخص والإنسان بحالة الاعتراف “كم كنتُ كاذبا”.
وبالنسبة لنا نجد البيت قد أبرز مشهدا تخيليا، يشير نحو عشرات المواقف الضمنية في إنكار من يحبها وهو مغرم بها، ويكمل نزار بيته الثاني أيضا بفعل مضارع يتحدث به :

وأزعم أن لا شـيء يجمـع بيننـا
لأبعد عن نفسـي وعنك المتاعبـا

هنا يؤكد البيت الثاني ما قاله نزار ببيته الأول، ويكمل المشهد معللا لنا لماذا يفعل ذلك، (لأبعد عن نفسي وعنك المتاعبا) 
ونلاحظ هنا التوزيع الشعري لأفعال مضارعة:
(أقول).. صدر البيت الأول
(وأعرف) عُجُز البيت الأول
(وأزعم) صدر البيت الثاني
(لأبعدَ) عجز البيت الثاني 

 لنجد بأن الفعل المضارع يقوم بربط مشاهد القصة التي قد بدأت ب”أقول”

يكمل نزار لنا قصيدته (التمثيلية) :

وأنفي إشاعات الهـوى وهي حلوةٌ
وأجعـل تاريخي الجميـل خرائبـا
،،
وأعلـن في شكلٍ غبـيٍّ براءتـي
وأذبح شـهواتي وأصبـح راهبـا
،،
وأقتل عطري عامدا متعمـدا
وأخرج من جنات عينيك هاربا
،،
أقوم بدورٍ مُضحـكٍ يا حبيبتـي
وأرجع من تمثيـل دوري خائبـا
،،
فـلا الليل يخفي لو أراد نجومه
ولا البحر يـخفي لو أراد المراكبا

انتهت القصيدة ببيت الختام الذي حمل قفلة جميلة للمشهد بحكمة وتمثيل، لكن الأهم هو التحول الذي حدث لمطلع الصدر والعجز بالبيت الأخير، فقدا بدأ ب (فلا) و (ولا) والفعل المضارع تحول من البدء بألف المتكلم لياء المضارعة (يخفي)، ثم إن نزار جعل الفعل المضارع مكررا بالبيت الأخير في حين لم يتكرر أي فعل مضارع سابق، مما صنع هندسة جميلة بالتوزيع الشعري للفعل المضارع

ثم إننا لو عدنا لكلمة ”أقول“ بالمطلع فقد حقق بها نداء الشاعر نحونا بالانتباه إلى وجوده هو، وبالتالي الإصغاء والترقب، ولو بطئنا النص كما فعلنا بقصيدة قطري بن الفجاءة، لوجدنا أننا ننتظر ” يقول لمن؟“ وهذا لازم القول، وهو وظيفة اللغة في وجودنا، ثم لننظر للألف وهو من حروف المضارعة، ”أقول“ والأجدر أن نسميه ألف المتكلم الذي يشير المتحدث لنفسه بفعله، ”أقول“ وهنا تبرز الأنا الشعرية بالنص، وصوت الشاعر الجلي.

إنه لمزيد من التمعن حول ”أقول“ بوصفها كلمة تحمل شاعرية بذاتها، علينا النظر لها بنص أحمد شوقي الذي كتبه عام ١٩١٤م، وكان وجودها بالبيت ٢٤ :

ولقد أقول وأدمعي منهلّةٌ
باريسُ لم يعرفكِ من يغزوك 
،
زعموكِ دار خلاعةٍ ومجانةٍ 
ودعارةٍ يا إفك ما زعموكِ

وبعيدا عن محتوى النص الذي تجاهل الشاعر به الكثير من الجرائم الاستعمارية للفرنسيين حينئذ، فإن كلمته :“أقول“ جاءت بمعنى ”قلت“ ولضرورة الشعر وزنًا جعلها أقول وقد يتبادر أيضا استمرارية موقفه في ذاته باستخدام صيغة المضارعة لو كان من الممكن استبدال الكلمة ب“ نطقت“، وما يهمنا هنا أنها لم تكن بالمطلع بل وسط القصيدة، وقد مثلت أيضا نداء الشاعر نحوه لمعرفة موقفه، وهنا يخاطب الناقمين على باريس، وبتأمل بسيط سنبصر شاعرية أن يبرز صوت الشاعر في النص.

0 0 votes
تقييم الأعضاء

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض