الدين والاكتئاب…
تأخذ كلمة “اكتئاب” ، معنى مشوّهًا عند القراء حين تُلقى بجملة في سطور لا توضح المقصود بها ،
هل نعني بالاكتئاب الكآبة ، الشعور بالإحباط ، الحزن عرَضًا ، الضجر والملل ، التقييم الذاتي لوضعنا ، إلخ
أم نعني
بها “مرض الاكتئاب النفسي” ؟
هل الدين له تأثير بالمعاني الأولى وليس له أي فاعلية بالمعنى الأخير ؟
دعونا نتحدث أولًا عن الدين والاكتئاب الشعوري غير المشخّص مرضًا عند الطب النفسي وسأسمي هذا النوع بمصطلح “الكآبة” ثم بعد ذلك نعرض معلومات عنه في نشأة وتمادي مرض الاكتئاب النفسي .
،
حين تتخذ الوجودية الملحدة مهاجمة الأديان وسيلة للتعبير عن تكوينها المتشائم ، الباعث للكآبة ، بشكل دعائي نحو الشعور بالمسؤولية والانطلاق من الذات ، كما يحاول سارتر في كتابه “الوجودية مذهب إنساني” أن يحقق ذلك ، فإنها تدفع للمزيد من الضغوط النفسية على معتنقها ،
فالدين يعني الأمل ، الباعث نحو الثقة بالحياة وأن العقل البشري لا يملك إحاطة كبرى لما يحدث في حياة الفرد والمحيط ، وهذا ما نشأ عن تراكم تجاربه بها ،
فكم من حلول أتت بلا سابق جهد ، وكم من نجاة ظهرت حين غرق ، وهذا الأمل الذي تشكل بالأعماق تفكيرًا وطريقة تفكير ، ينسجم مع الدين (بمستويات الوعي واللاوعي) لأن الدين أمل كبير أيضًا .
وإذا اختار المرء الإلحاد فقد تصادم مع قواه النفسية العميقة ليتشكل الاضطراب والصراع المزمن المتمثل بالشعور بالكآبة بلا انقطاع .
كل فرد بهذه الحياة يعاني من ضغوط نفسية ، لديه طرق لتجاوزها أو الصبر عليها والتحكم بذاته (مزاجه/انفعالاته) وبالتالي ما يتراكم بعد ذلك من أقدار وضغوط وقوالب إلى آخره.
للدين دور كبير في إدارة حياتنا ، وما يوازي الدين من فلسفات لها كذلك ، وهما مؤثران في تركيبتنا النفسية/العقلية إما بسلوكياتنا وأثرهما المتراكم أو تنميط مشاعرنا ومواقفنا بناء على تعاليمهما ،
لا أحد يخلو من هذا التنميط في درجة وحدة مشاعرنا وحجم سلوكياتنا بناء على معتقدات وأحكام الدين وما يوازيه من فلسفات ، وبناء على تجلياتهما بالمجتمع ، العائلة ، التربية ، الشارع ، القوانين ، والدولة.
،
للكآبة إذن ظهور وثيق متأثر بالدين وما به من أحكام ومعتقدات سلبًا أو إيجابًا وفق الشكل والنوع الذي يقدمه من تأثيرات نفسية غالبًا ما تكون مفيدة وجيدة بالسيطرة والتخلص من شعورنا بالذنب ، أو حزننا على ما فقدنا ، أو تنظيم وتحسين طريقة تعبيرنا عن أنفسنا ، أو نظرتنا للمستقبل ، خوفنا ،
وحتى غذائنا ( موقف الدين من شرب الخمر ، تعاطي المخدرات إلخ وتداعيات ذلك على شعورنا) وكل ذلك يصب في تخفيض الضغوط النفسية .
،
وللدين تفاعل كبير في تكوين غير المتدين أيضًا ، حيث تلقى أيضًا نظرته للحياة وتكوينه العقلي بصغره من عائلته ومحيطه وثقافة المحتمع السائدة ، وهذا التواجد العميق والقليل ظاهريًا يؤثر أيضًا فيه .
،
إن نشوء مرض الاكتئاب النفسي بأنواعه ، كان للضغط النفسي دور كبير به ، بالإضافة لعوامل غذائية ، وأخرى تخص السموم (الغازات،الأدوية،الهرمونات،إلخ)
وموضوع المرض وتركيبته العضوية طويل وهناك عدة نظريات عنه ، منها نظرية التعلم
(نشوء المرض ناجم عن تعلّم الشخص طرق تفكير مدمرة ) “distorted thinking”
ونظريات لها علاقة بالتهابات مزمنة وهناك ارتباطات وثيقة للاكتئاب عرضًا لأمراض الغدة الدرقية، والأنيميا،والجهاز الهضمي إلخ)
،
ما هو دور الدين في الوقاية من ظهور المرض ؟
هنا خبر عن بحث علمي طبي أثبت بالدليل أن الدين والاتجاهات الروحية تخفض خطورة الاصابة بمرض الاكتئاب عند أشخاص من عوائل لها تاريخ مرضي .
Brain changes related to religion and spirituality could confer resilience to depression
ولا عجب بذلك فإننا جميعًا نعرف دور الدين بتخفيض الضغوط النفسية وبالتالي تخفيض خطورة الإصابة بالمرض والحديث عن ذلك فكثير جدًا ، وعلى مستوى التغذية فتجنب المتدين الخمر والدخان وتنميط ذاته قد يساعد أيضًا ، بالإضافة لأنماط العبادة بالإسلام مثلًا التي تنمط ذهن المرء لتقسيم أوقاته والتمسك بتنظيم نومه ومن ذلك علينا أن نوضح أن لتركيبة الدين وشكله دور في ماهية التأثير
فالأديان التي تسبب الهلوسة وتعذيب النفس مثلا مذهب الزرادشتيين الهواشم بالتطبير وتعذيب النفس وتقديس الأحزان ، من المؤكد أنه سيزيد الإصابة بل وسيدفع المرء لتعلم التعاسة والتعاطي والعذاب.
،
هل الدين يصلح كعامل مساعد بالعلاج من مرض الاكتئاب النفسي ؟ هل يقلل من حدة المرض ؟
ما هي الأدوار التي تزيد من حدة المرض وسببها الدين ؟
هذه الأسئلة يجيب عليها
هذا المقال بالتفصيل
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3426191/
لمجموعة من علماء الطب النفسي ، بموقع طبي له مكانته ، عن بحوث أُجريت منذ ٥٠ عامًا ،
وخلاصتها :
نعم له تأثير غالبا في خفض حدة المرض ، وتحسين نمط التفكير وتخفيض الضغوط النفسية وخفض نسبة الانتحار والسيطرة على المرض،
وهناك تأثير محدود بدراسات قليلة للمفاقمة في حال التشدد الديني وما يخص النظرة للعائلة ( وهذا يعني أن تركيبة الأفكار التي نستقيها تعمل بشعورنا وعلينا الحذر أيضًا من التشدد ).
أعتقد بعد هذا السرد ،
يستطيع القارئ الرد عاى الخطأ في جملة تضع “الاكتئاب” دون تحديد معناه المقصود اصطلاحًا ، وكذلك خطأ الرأي الذي يعزل الدين عن التأثير بجميع أحوال معنى تلك الكلمة أيضًا .
عصام مطير البلوي
الرسمة الملحقة للفنان Andrew Wyeth واسم اللوحة Christina’s World