قراءاتقراءات فلسفية

وحدة الوعي، مشكلة الفلسفة والعلم

أستيقظُ من نومي، مع تباشير الصباح، وقد أخذ الطريق اتجاهه نحوي، ها هي يقظتي تمتد في الأفق وبداية يومي تصبح هي تاريخي الخاص، لكن هناك ما هو أشد خصوصية قد بدأ منذ اللحظة الأولى حين ذلك الاستيقاظ، ما هو؟ إنه شعوري بنفسي، إنه الوعي.

أُعيد النظر كما تعيده أنت معي حول الشعور، سنغمض أعيننا ونفكر قليلا في تفكيرنا، نتجه للتأمل في تفكيرنا بسؤال عنه ماذا يكون ونحن نبصر الأشياء؟، أو كيف يكون ونحن نتذكّر أي قصة؟، 
ثم إننا خلال ذلك قد تخطر بعقولنا خواطر شتى، وكل هذا في مسرح كل شخص منا، لا يدخله إلا صاحبه، فأنا لا أستطيع أن أرى أو أشعر ما تراه فعلا في ذهنك لأن الوعي تجربة ذاتية خاصة وهي بمعزل عن بعيد عن أي وصول إلا لصاحب هذا الوعي / العقل،

فإذا كنا نفكر بالوعي بصفته الشعور اليقِظ، أي حالة الانتباه والدراية، فنحن هكذا وصلنا لتعريف عام له، يتناسب مع تقدم الفلسفة بهذا العصر لكننا بالقرب ولم نخض بعد الأسئلة الفلسفية الثلاثة عن الوعي:

“كيف يرتبط الوعي بالمظاهر الأخرى للواقع؟
أين يوجد الوعي في الواقع؟
ما هي طبيعة الوعي؟”1

وكلٌ سؤال ممّا سبق يفتح لنا ما لا حصر له من الأسئلة وفق الاتجاه الفلسفي الذي نتبناه، وبزمن مثل هذا الزمن الذي نعيشه حيث أصبح للعلم مكانةً رفيعة وقد تطورت العلوم الطبية وأصبحت الفيزياء الحديثة مركز الحركة الكبرى للمعرفة، اتجهت فلسفة الوعي من التفكير بالروح الواحدة إزاء الجسد، إلى النظر بصحة هذا الادعاء، هل فعلا وعينا واحد وليس أجزاء أو أنواع؟ 
يجيبنا “نيد بلوك” بمقالة عن أن هناك نوعين من الوعي، وعي ظاهراتي ووعي نفاذ ويجادل في الفرق بينهما2، وهناك أنواع أخرى من الوعي من الممكن النظر إليها مثلا:  الوعي بالذات 

ثم إن علينا النظر بأن هناك مشاكل تراها الفلسفة للوعي في ظل هذا التطور العلمي، من أهمها مسألة المشكلة الصعبة للوعي التي تحدث عنها ديفيد تشالمرز وهذه الفجوة التفسيرية تنبثق منها مشاكل متعددة .

لنفترض أنك الآن في هذه اللحظة قد نظرت لتفاحة في يدك، وهو المثال السهل الذي عادة ما يستخدم لشرح معضلة الوحدة للوعي. 
إنك تنظر للتفاحة وهأنت تبصر لونها الأحمر وبالوقت ذاته تشعر بملمس قشرتها وثقلها بكفك، وقد تكون حينها محاطا بضجة بالمحيط تسمعها، إن كل هذه التفاصيل تأتي معا بوعيك، فأنت لا ترى اللون ثم تدرك حجم التفاحة وثقلها ثم بعد ذلك تسمع الضجيج الذي تلتقطه بأذنيك، بل كل هذا يمر في ذهنك معا بمشهد واحد، وبالتزامن مع وعيك بذاتك أيضًا وأمور أخرى، 

ما الذي يجعل كل هذه الأشياء والصفات تأتي موحدة بوعيك برغم أن كل جزء مما مضى يقوم الدماغ بمعالجتها بمناطق مختلفة منه وبطرق متنوعة من الآليات الكيموحيوية والفيزيائية لأنسجة عصبية شتى؟
وبأسلوب آخر: كيف يمكن للدماغ أن يُنتج وعيًا موحدًا ومتماسكًا بينما تكون العمليات العصبية التي تدعمه منفصلة ومتخصصة؟ 
هذه هي مشكلة الوحدة في فلسفة الوعي.

“ أحد المحاور المهمة للتحقيقات الحديثة في علم النفس المعرفي وعلم وظائف الأعضاء العصبي هو كيفية قيام النظام البصري بدمج المعلومات حول الشكل واللون. إذا نظرت إلى جسم دائري أخضر، فإن إدراك الخضرة والدائرية يتم تمثيله في أجزاء مختلفة من نظامي البصري. ومع ذلك، في تجربتي، يكون اللون والشكل موحدين. أنا أختبر كيانًا واحدًا: جسمًا دائريًا أخضر. ألاحظ وأبلغ عن وجود هذا الجسم الواحد فقط. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ كيف يتم توحيد اللون والشكل بحيث ينتميان إلى كيان واحد في وعيي؟ يُطلق على هذه المسألة غالبًا “مشكلة الربط”، والنوع من الوحدة الذي تتناوله هو وحدة الكائنات”3

عاش الرواقيون خلال فترة تمتد تقريبًا من 300 إلى 100 قبل الميلاد، ولهم فلسفتهم الكبيرة، وما يهمنا في ذكرهم هو الجذور التاريخية لمشكلة وحدة الوعي والربط بين مختلف الأحاسيس، حيث قدم الرواقيون مصطلح “الهيجمونيكون”hēgemonikon
الذي افترضوا أنه المركز الذي يتحكم في عمليات الإدراك، واتخاذ القرار، والتكامل الحسي، والفهم العقلاني، وقد عُرف بأنه العنصر الأساسي في النفس الذي ينسق بين المدركات الحسية، والعواطف، والعقل، مما يسمح بوجود وعي متماسك للفرد،

بهذا فالهيجمونيكون مرتبط بشكل وثيق بمشكلة الربط (The Binding Problem) في علم النفس والفلسفة الحديثة. 
فكما يتساءل العلماء اليوم عن كيفية دمج المعلومات الحسية المختلفة (مثل اللون، الشكل، والحركة) في تجربة واحدة موحدة، طرح الرواقيون فكرة أن الهيجمونيكون يعمل كـآلية لدمج الحواس والمعلومات الذهنية في وعي موحد ، وعن هذا يقول لنا Jonathan Holmes في مقالة عن مشكلة الوحدة

كان يُعتقد أن “الهيجمونيكون” هو آلية تواصل مركزية تستقبل المعلومات من جميع أجزاء الكائن الحي، وتفسرها، وتوفر تكاملًا وظيفيًا نفسيًا متماسكًا وفهمًا عقلانيًا. وهنا تبرز “مشكلة الربط”(The Binding Problem4

هذا المصطلح بالطبع اليوم لم يعد كافيا في ظل المعرفة العلمية الكبيرة بالدماغ والجسد عموما، فمسألة الربط الآن ووحدة الوعي تحتاج تفسيرًا دقيقا عن ألية الربط بين الأنشطة الدماغية المختلفة وتوحيدها بوعي متزامن، وهناك فجوة أكبر معروفة أيضا وهي مشكلة الكواليا/ الصفات/الخصائص الظاهرية للوعي (يُطلق عليها مصطلح الكيفيات المحسوسة) في أذهاننا: الحمرة ، الصوت وغيرها ، كيف تنبثق من مجرد مادة دماغية، وهذه ما اسماها الفيلسوف الأسترالي ديفيد تشالمرز كما ذكرت سابقا المشكلة الصعبة بفلسفة الوعي.

 لنعد الآن لمشكلة الربط ووحدة الوعي، موضوعنا الذي نتحدث عنه، فليس الرواقيون وحدهم الذين أثارتهم مشكلة مثل هذه فقد افترض ديكارت بثنائيته، الغدة الصنوبرية موضعا للتأثير بين العقل والجسد غير أن هذا الافتراض اتضح خطآه مع غياب آلية هذا التفاعل وكذلك فإن ديكارت لم يفسر لنا كيف تكون هذه الظواهر العقلية مدمجة بالذهن وتأتي واحدة، فما كان يفكر فيه هو كيف يمكن لأي شيء مادي أن يُنتج تأثيرًا داخل روحي، التي هي غير مادية؟ 
وكيف يمكن للأحداث في روحي/عقلي أن تؤثر على العالم المادي؟ وقد افترض الغدة الصنوبرية حلا لها ، ولم يكن ديكارت معتقدا بان العقل ينشأ من الدماغ فالعقل له وجود مستقل تماما عن الدماغ5 وبالتالي فإن سؤال الوحدة هذا ليس مطروحا في زمنه6

 وبالنسبة لإيمانويل كانط فقد رأى أن العقل لدية بنية فطرية تساعد في تنظيم الإدراك وربطه بوحدة متماسكة بما يعرف باسم  “التوليف المتعالي” (Transcendental Synthesis)7، وهي العملية التي يستخدمها العقل لدمج الحواس المختلفة في تجربة متماسك، ومع ذلك فإن هذا التفسير لا يكفي لتفسير هذا الاختلاف بين انشطة الدماغ ومظهر الوعي الموحد ، وأما ديفيد هيوم فهو لا يرى العقل سوى “حزمة أو مجموعة من الإدراكات والانطباعات المختلفة” (a bundle or collection of different perceptions) التي تتعاقب بسرعة كبيرة وتكون في حالة تدفق مستمر8. فبالنسبة له، لا يوجد “جوهر” أو “ذات” ثابتة تجمع هذه الإدراكات معًا، بل إن الوعي هو مجرد سلسلة من الانطباعات (impressions) والأفكار (ideas) المرتبطة ببعضها.

بهذا العصر تحول النقاش حول وحدة الوعي من مجال فلسفي خالص إلى مزيج من التأمل الفلسفي والتفسير العلمي، وقد ساهمت أفكار ديكارت، وكانط، وهيوم، ولوك، وغيرهم في تشكيل الجذور الفلسفية الذي تقوم عليها الأبحاث الحديثة حول مشكلة الربط، والتي لا تزال قيد البحث حتى اليوم في مجالات الفلسفة وعلم الأعصاب.

أخذت فلسفة العقل اليوم اتجاها مختلفا عن القرون الماضية فقد تقدمت علوم الأنسجة والأعصاب، بالإضافة لعلوم أخرى مختلفة ، من الفيزياء إلى الكيمياء ، وما أن نتقدم بها خطوة للأمام ينشأ الكثير من الأسئلة عن الوعي ، ومن ضمن هذه الأسئلة كيف يمكن للدماغ أن يُنتج وعيًا موحدًا ومتماسكًا بينما تكون العمليات العصبية التي تدعمه منفصلة ومتخصصة؟
ولفهم هذه السؤال ، علينا أن نعود لمثالنا عن رؤية التفاحة الحمراء ، ونحلل هذا المشهد البسيط بعد ذكر ما يقوله علم الأعصاب باختصار شديد :

يبدأ المسار البصري visual pathway
بدخول الضوء إلى العين عبر القرنية والعدسة، حيث يتركز على الشبكية Retina التي تحتوي على المستقبلات الضوئية من عصيات  Rods   ومخاريطCones، والتي تحول الضوء إلى إشارات كهربائية تنتقل عبر العصب البصريoptic nerve
يحمل العصب البصري هذه الإشارات إلى الدماغ، وعند التصالب البصري optic chiasma  تعبر بعض الألياف إلى الجهة المقابلة لضمان معالجة كل مجال بصري في النصف المقابل من الدماغ.
تصل الإشارات بعد ذلك إلى النواة الركبية الجانبية (LGN) في المهاد Thalamus ، والتي تعمل كمحطة ترحيل لمعالجة التباين والألوان والحركة قبل إرسال المعلومات إلى القشرة البصريةvisual cortex . في الفص القذالي، تستقبل القشرة البصرية الأولية (V1) الإشارات وتحلل الحواف، الاتجاهات، والحركة الأساسية.
 بعد ذلك، تتم معالجة المعلومات بعمق أكبر في المسار البطني الذي يقع في الفص الصدغي، وهو مسؤول عن التعرف على الأشياء والوجوه والألوان، والمسار الظهري في الفص الجداري الذي يعالج الحركة والإدراك المكاني.
ثم بعد ذلك وبنهاية الأمر تصل البيانات (الكهروكيميائية) البصرية المعالجة إلى القشرة الجبهية الأمامية حيث تندمج مع الذاكرة والانتباه، مما يؤدي إلى تكوين الإدراك الواعي للأشياء والمحيط


ما قيل سابقا له تفاصيل كثيرة9 تشمل الكيمياء الحيوية والفيزياء، ودراسات علمية مختلفة، ثم إن هناك بالتوازي معه مسارات وأنشطة للحواس الأخرى والذاكرة ومع ذلك فإن كل هذه الدراسات والعلوم عما يمكن أن يكون بالمشهد الذي أمامنا ونشعر فيه لا يفسر لنا عدة قضايا يهمنا فيها:
كيف تنشأ وحدة التجربة الواحدة من عمليات عقلية أو عصبية متعددة؟ ما الذي يجعل الأصوات والألوان والأفكار “تلتقي” لتكوّن تجربة واحدة متماسكة، بدل أن تكون تجارب منفصلة بالتوازي؟ هذا السؤال هو جوهر مشكلة الوحدة في الفلسفة، ويتقاطع بشدة مع ما يسميه العلماء مشكلة الربط العصبية.

إن السبب في اعتبارها إشكاليات وفجوات تفسيرية يبرز بأنه عندما ننظر إلى المسارات والآليات وأنواع الخلايا والتقسيمات في  الدماغ ونعلم أنه يتكون من مليارات الخلايا العصبية موزعة في مناطق متخصصة تعالج أنواعًا مختلفة من المعلومات – مثلًا، في القشرة البصرية هناك مناطق منفصلة نسبيًا لمعالجة اللون، وأخرى للشكل، وأخرى للحركة، إلخ – لا نعلم كيف تُربط هذه المناطق معا فلا يوجد بالدماغ مركز تتقاطع فيه كل المسارات وتصب فيه كل الأنشطة الكيموحيوية والفيزيائية للخلايا ، أي نعم هناك مراكز متخصصة تمر من خلالها بعض لمسارات العصبية لكن ليس الجميع مترابط بطريقة المشاهد الداخلي الذي ينظم كل شيء ويشاهدها بما يُعرف باسم مسرح ديكارت10 المصطلح الذي صاغه الفيلسوف دانيال دينيت (Daniel Dennett)، للإشارة إلى الفكرة أو التصوّر الذي يرى أنّ هناك نقطةً أو مكانًا مركزيًا داخل العقل أو الدماغ تكون بمثابة “خشبة مسرح” تُعرض عليها الخبرات الحسيّة والذهنيّة أمام “مشاهدٍ داخلي” أو “ذاتٍ مُراقِبة” منتقدا بذلك فكرة ديكارت عن ثنائية العقل والدماغ ، لكنه نفسه لم يقدم لنا تفسيرا علميًا معقولا للمعضلة .

تناولت المدارس الفلسفية المعاصرة مشكلة الوحدة كل منها علي طريقتها، وظل السؤال قائما : كيف ؟

فعلي سبيل المثال بالفلسفة الظاهراتية يجيبنا موريس ميرلو-بونتي الظاهراتي الفرنسي أن ما وراء الوحدة هي : الجسدانية فلقد  رأى الجسم/الجسد الحي هو مزوِّد إطار الوحدة: فإحساسنا الدائم بوحدة منظورنا نابع من كوننا نمتلك جسدًا واحدًا يربط حواسنا معًا في مكان وزمان واحد فعندما ألمس بيدي وأرى بعيني، جسدي هو المرجعية المشتركة التي تجعل الشيئين في تجربة واحدة لي ، وقد طرح أيضًا مفهوم الحقل الإدراكي الموحد، حيث المجالات الحسية المختلفة (بصر، سمع، لمس) تتداخل باستمرار. إذًا الوحدة، عنده، ليست مجهود ذهني واعٍ بل خاصية بنيوية لحياتنا التجسدية في العالم، يرى الظاهراتيون عموما أنّ الوعي دائم التدفّق، وأنّ الوحدة لا تتشكّل فقط نتيجةً للترابط الشبكي اللحظي، بل هي فعل متواصل مع البعد الزمني والخبرة الحية،

يغيب عن هذا الرأي الكيفية التي تحدث بها هذه الوحدة في ظل التقدم العلمي، وهو وإن كان يأخذ الوحدة ظاهراتيا فإنه لا يجيب على أسئلة العلم والفجوة التفسيرية، لكن الفلسفة الظاهراتية عمومًا تتجه اتجاها مختلفا،

وحين النظر بما تقوله المدرسة الانبثاقية التي تعتبر ضمنيا من الاتجاهات الفلسفية المادية غير الاختزالية لتفسير الوعي سنجد أنها ترى أنّ الظواهر العقليّة (مثل الوعي) ناتجة بالفعل عن تفاعلات فيزيائية في الدماغ؛ أي أنّها في النهاية تستند إلى المادة ولا وجود لها في عالم مستقل أو كما يرى ديكارت بثنائيته.
لكنها تُضيف أنّ هذه الظواهر “تنبثق” من التعقيد البنيوي والوظيفي للدماغ بطرق لا يمكن ردّها أو اختزالها ببساطة إلى تفاصيل الأجزاء المادية المنفردة (مثال: لا يمكن فهم ظاهرة الوعي بطرقة كافية من خلال وصف الخلايا العصبية كلٌّ على حدة فقط)
وبعبارةٍ أخرى، هناك “مستوى أعلى” من التنظيم والخصائص ينشأ أو “ينبثق” من مستوى فيزيائي أدنى، دون أن يكون هذا المستوى “منفصلًا” ثنائيًا عن المادة لكن ما هو هذا الانبثاق وما طبيعة الوعي ذاته ثم كيف تكون وحدته في أذهاننا؟ لا إجابة مقنعة.

يتضح أنه رغم التقدم الكبير في فهم ودراسة الدماغ، تظل مشكلة الوحدة للآن تحديًا كبيرًا بسبب تعقيد العمليات العصبية وعدم القدرة على تحديد كيفية تحويل النشاط العصبي إلى تجربة ذاتية (ظاهراتية) بالإضافة إلى ذلك، يطرح السؤال الفلسفي حول ما إذا كان الوعي يمكن اختزاله إلى عمليات فيزيائية بحتة أم أنه يتطلب تفسيرًا أكثر تعقيدًا، وهكذا من الممكن تقسيم المعضلة إلى عدة أسئلة:

١. ما هي العلاقة بين الوعي وتجاربه وخبراته الذاتية وبين الدماغ وعملياته العصبية الفيزيائية الكيميائية؟
٢. كيف تتوحد التجربة الذاتية للوعي ؟ وكيف تتوحد العمليات الدماغية المختلفة ؟
٣. هل وحدة التجربة الذاتية (الوحدة الظاهراتية) وليدة الوحدة المفترضة (غير المثبتة للآن علميًآ) للدماغ أم أن هناك أسباب داخلية فيها مثلا القصدية وعلاقات الأفكار ببعضها البعض؟
٤.هل هناك قوى فيزيائية توحد المسألة برمتها أم أن هناك طبيعة أخرى ليست فيزيائية للمادة؟ ثنائية الخواص مثلا؟
هكذا تظهر أسئلة كثيرة، وفيما يخص العلم ومحاولته حل مشكلة الوحدة فإليكم بالمختصر الآراء الفلسفية للمدارس المعاصرة:

 “قد يكون التزامن العصبي هو المفتاح الذي يسمح للدماغ بتحديد العلاقات بين السمات المختلفة للشيء المدرك”
وولفسينجر11

تقول لنا هذه النظرية بأن التزامن العصبي ربما يكون الأساس الذي يربط السمات المختلفة للمنبّه البصري، مثل اللون والحركة والاتجاه، بشكل يسمح للدماغ ببناء تمثيل موحّد للشيء المرئي فعلى سبيل المثال، إذا كانت هناك خلية عصبية تلتقط اللون الأحمر وأخرى تلتقط حركة أفقية، فإن تزامن نشاطهما الكهربائي يمكن أن يشير للدماغ بأنّ اللون والحركة ينتميان إلى العنصر نفسه

ويرى مؤيدو هذه المدرسة أنَّ التذبذبات المتزامنة (Synchronous Oscillations) في الدماغ خصوصًا في نطاق موجات غاما (40 هرتز تقريبًا)، تؤدي دورًا مهمًا في ربط النشاط العصبي في المناطق المختلفة، مما يتسبب بتوحيد عناصر ومظاهر الإدراك بتجربة واعية واحدة

وقد اعتمد كل من فرانسيس كريك وكريستوف كوخ. (Francis Crick & Christof Koch) على دراسات فيزيولوجيا الأعصاب لتبيين أن الخلايا العصبية في مناطق متباعدة يمكن أن تتفاعل في نمطٍ متزامن عندما تعمل على معالجة الصورة نفسها أو الكيان الإدراكي ذاته
ولقد أظهرت الأبحاث على القردة أن الخلايا العصبية في القشرة البصرية تتزامن عند إدراك كائن معين، مما يشير إلى وجود آلية بيولوجية تدمج المعلومات في تجربة واحدة وقد ظهرت تقنيات مثل التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG) والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أن تزامن موجات غاما يرتبط بالإدراك المتكامل للمنبهات الحسية.  

– مع كل الدراسات العلمية ظلت هناك أسئلة محورية لم تجبها هذه الفرضية:

  1. هل التزامن سبب أم نتيجة؟ بمعنى هل التزامن يؤدي فعلا لإنتاج الوعي كاملا أم أنه مجرد نتيجة لعمليات دماغية أخرى تنشط خلال الوعي؟
2. ما مدى سرعة وفعالية التزامن؟ كيف يمكن للدماغ أن يدمج المعلومات بهذه السرعة دون حدوث أخطاء في الإدراك؟  ماذا يقف خلف تماسك الوعي واستمراريته؟
3.هل هي الآلية الوحيدة؟ ربما لا تكون إلا آلية من بين عدة آليات تعمل معا لإنتاج الوعي.

ثم إننا حتى لو قبلنا بأن التزامن العصبي جزء أساسي من عملية الدماغ لتجميع المعلومات، تبقى هناك أسئلة “لماذا” و”كيف” تُترجم هذه العملية الفيزيائية إلى خبرة واعية متكاملة وهل هي كافية لشرح كل أنواع التزامن لمدركات حسية مختلفة؟.

“لا شكّ أن التزامن العصبي يلعب دورًا، لكنّ من غير الواضح حتى الآن ما إذا كان هو الدافع الأساسي لتوحيد الإشارات الحسيّة، أم أنه مجرد علامة على عمليات أعمق”
ستيفن بالمر12

Global Neuronal Workspace هو نموذج علمي يقترح أن الوعي ينشأ عندما تدخل المعلومات الحسية إلى فضاء عصبي شامل يتم فيه تبادل المعلومات بين شبكات دماغية متعددة 13

تبلورت هذه النظرية بشكل رئيس على يد برنارد بارس وستانيسلاس دهاين اللذين دعّماها بتجارب علمية في مجال التصوير العصبي (Neuroimaging) ودراسة الحالات المرضية المرتبطة بالوعي، مثل الغيبوبة والإغماء الجزئي، إضافة إلى دراسات تركز على وقت الاستجابة والتقارير الواعية واللاواعية.
يشير “فضاء العمل” في هذه النظرية إلى ساحة عمل معلوماتية قابلة للمشاركة بين الوحدات العصبية المتخصصة في الدماغ. فمثلًا، هناك وحدات بصرية، سمعية، حسية، ذاكرة عمل قصيرة المدى، وغيرها من الوحدات المتخصصة. وما أن يتم “بث” (Broadcast) المعلومات في هذا الفضاء المشترك، حتى تصبح تلك المعلومات متاحة لمعظم الأنظمة الفرعية، مما ينعكس على سلوك الفرد وقدرته على الإبلاغ الواعي عن تلك المعلومات.14
بصورة مجازية  من الممكن اعتباره”مسرح الوعي” حيث تُسلَّط الأضواء على بعض العناصر لتصبح مرئية للمشاهد في مقابل عناصر أخرى تبقى في الظل، وهي العمليات اللاواعية التي لا تصل إلى مرحلة “البث” في فضاء العمل العصبي الشامل.

«في مسرح الذهن، يُسلّط الضوء على بعض المعلومات في بؤرة الوعي، بينما تبقى المعلومات الأخرى، وهي كثيرة، في الظلام خلف الكواليس.»
– برنارد بارس، A Cognitive Theory of Consciousness (Cambridge University Press, 1988).

«إن دخول المعلومة إلى فضاء العمل العصبي العالمي يشبه تشغيل مصابيح النيون في محطة قطار ضخمة، ما يسمح للمناطق المختلفة بالتنسيق وتبادل الإشارات.»
– ستانيسلاس دهاين، Consciousness and the Brain (Viking, 2014).

مازالت هذه النظرية في طور الاختبار والنقد، ومازالت عاجزة عن إجابة بعض الأسئلة ، مثلا كيف يستطيع البث العصبي الواسع النطاق تفسير التجربة الذاتية للوعي ؟ هل مجرد “بث” الإشارات يبرر تمامًا ظهور الخبرة الذاتية (Qualia)؟ ديفيد تشالمرز (David Chalmers)، يوجه انتقاده بأن النظرية قد تُفسر آلية الوعي الوظيفية دون سد الفجوة التفسيرية حول الوجود الذاتي للخبرة15


يرى جوليو تونوني (Giulio Tononi) في نظريته عن “التكامل المعلوماتي”16 (IIT) أن الوعي ينشأ من قدرة النظام على دمج المعلومات دمجًا عالي التعقيد في بنية واحدة ويقاس هذا الدمج بمقدار يُسمّى “Phi” (Φ)، بحيث كلما زاد التكامل، كان هناك وعي أعمق17

يقترح أصحاب هذه النظرية أن الربط العصبي يوصف بمستوى القدرة على تكامل المعلومات في الشبكة العصبية، مما يجعل الوعي ظاهرة ناشئة (Emergent) عن البنية المادية للدماغ،
ومع ذلك فإن هذه النظرية تواجه أسئلة حول كيفية الربط الدقيق بين “المدلول العصبي” و ”التجربة الظاهراتية الفعلية”، وهل يمكن لكمية المعلومات المدمجة أن تفسّر بالضرورة مكوّنات الخبرة الوجدانية؟ كما أنَّ حساب فاي “Φ” نفسه معقد وصعب التطبيق على الأنظمة الحيوية المعقدة مثل الدماغ.

.

خلال قراءتك هذه المقالة عن وحدة الوعي كنت تعيش تجربة واعية موحدة بقراءتك ومشاهدتك الشاشة وسماعك ما حولك والتفكير بما هو مكتوب بالوقت ذاته، وإلى الآن لا العلم ولا الفلسفة قد قدموا تفسيرًا شاملا لهذه الوحدة الواعية التي عشتها والربط الذي يحدث في دماغك بين كافة الأنشطة والخلايا العصبية وبين تلك الوحدة.


0 0 votes
تقييم الأعضاء

🕶 كُن معنا!

ستصلك منشوراتنا كل أسبوع عن الجديد
والمثير بعالم الشعر والفلسفة

لن نرسل لك البريد العشوائي أو شارك عنوان بريدك الإلكتروني مطلقًا.
اقرأ المزيد في سياسة الخصوصية الخاصة بنا.

1 Uriah Kriegel, The Oxford Handbook of the Philosophy of Consciousness, 2020, 14
2 Block, Ned. “On a Confusion About a Function of Consciousness.” Behavioral and Brain Sciences 18, no. 2 (June 1, 1995): 227–47. https://doi.org/10.1017/s0140525x00038188
3 The Blackwell Companion to Consciousness, Wiley eBooks, 2017, 69, https://doi.org/10.1002/9781119132363 https://doi.org/10.1002/9781119132363
4 Holmes, Jonathan (2019). The Unity of Consciousness: The Binding Problem before 100 B.C.E..Bridgewater Review, 38(2), 30-33 https://vc.bridgew.edu/br_rev/vol38/iss2/9
5 John R. Searle, ed., Mind: A Brief Introduction, Fundamentals of Philosophy Series (Oxford New York: Oxford University Press, 2004).
6 “The Unity of Consciousness (Stanford Encyclopedia of Philosophy),” May 19, 2017, https://plato.stanford.edu/entries/consciousness-unity/#:~:text=to%20be%20clearly%20one%20and,Descartes%201641%3A%20196. https://plato.stanford.edu/entries/consciousness-unity/#:~:text=to%20be%20clearly%20one%20and,Descartes%201641%3A%20196.
7 “The Unity of Consciousness (Stanford Encyclopedia of Philosophy),” May 19, 2017, https://plato.stanford.edu/entries/consciousness-unity/#:~:text=Kant%20was%20familiar%20with%20arguments,1781%3A%20A352.
8 Brook, Andrew and Paul Raymont, "The Unity of Consciousness", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2021 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = .
9 Purves, Neuroscience 6th Edition (Oxford University Press, USA, 2017), 262–80.
10 Dennett, Daniel C. Consciousness Explained. 1st ed. Boston: Little, Brown and Company, 1991, 107–119
11 Wolf Singer, “Neuronal Synchrony: A Versatile Code for the Definition of Relations?” Neuron 24 (1999): 49–65
12 Stephen Palmer, Vision Science: Photons to Phenomenology (Cambridge, MA: MIT Press, 1999), 112.
13 Stanislas Dehaene and Jean-Pierre Changeux, “Experimental and Theoretical Approaches to Conscious Processing,” Neuron 70, no. 2 (April 1, 2011): 200–227, https://doi.org/10.1016/j.neuron.2011.03.018. https://doi.org/10.1016/j.neuron.2011.03.018
14 Bernard J. Baars, In The Theater of Consciousness: The Workspace of the Mind (Oxford University Press, USA, 1997), 5–7.
15 David J. Chalmers, The Conscious Mind: In Search of a Fundamental Theory (Oxford University Press, 1996)
16 Giulio Tononi, “Consciousness as Integrated Information: A Provisional Manifesto,” Biological Bulletin 215, no. 3 (December 1, 2008): 216–42, https://doi.org/10.2307/25470707 https://doi.org/10.2307/25470707
17  Giulio Tononi, Phi: A Voyage from the Brain to the Soul (New York: Pantheon, 2012)

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض