
حاولتُ مثل كل الذين رأيتهم يفعلون ، أن أنسجمَ مع الجدار فلم أستطع ، ولقد نزلتُ إلى رئتي وقلت لها ما يضيرك لو كان ما حولي جدرانًا لا تهمس ، نزلتُ إليها حاملا معي دموعي .
( الحويصلات الغنائية لم تعرني أي اهتمام ، وأما القصيدة فبيني وبين روح الشعر منذ أسابيع صراع كبير)
– يا حاقد ما بالك ترمي بي أخطاءك ؟ لقد جئتُ إليك بأربعٍ من الرؤى فامتنعت عنا ، وسألتك أن تكتب فأخذتك منا الريح .
(اقترب نحوي ، أراني الشعلة التي كانت )
( إنها شعلة في قبو ، تنادي من بعيد ، ولأني مترع بالوهم الجريء ، اقتربت ، لا لأزيد من حدة ندائها ، بل لأنال دفء شيء يحترق ، يشاركني هذا الألم ، ولا أظن شيئا مثل النار ، يحمل هذا الكرم في العطاء ، وإن كانت هي تتوهم قدرتها على بلوغ السماء فإنني لا أتوهم ذلك فقط ، بل أتفوق عليها بإشعاله مرات عديدة .
أصطف ، في قلبي المحترق ، ها هو النفس الأحمق يأخذ قسطا من رئتي لأناله وقودا لحرقة لا تنتهي ، وهناك على امتداد خاطري ، رمادُ خطاي في كف الريح ، وقهقاتُ المدى ، وكتابٌ على قارعة الخيال مهمل ، ودَّ لو أنه يحترق لكن للمرايا حاجز عن ولوجه عالمنا .
كيف يلوحُ الأفق وقد انغمست تماما بالعمق بعد كل هذا المشوار الطويل من التفكير الزائد عن حاجة الكلمة للظهور ؟
أدرتُ رمقي الأخير الذي جاء خوفا نقيا، لا يشاركه أي شعور من الممكن رصده، واقتربتُ بكلِّ ما فيَّ نحو جفني شعلةِ القبو التي ذكرتُ ، فأطلتُ حدة الأمل ، يا صاحبي ماذا سيفعله القدر وللمرء في خلاياه ما لا يعلمه ، عاد الصدى نحوي ، والغروب حينها أعظم مما فعلته الشمس طيلة تاريخها ، لقد عاد يلومني إذ لم أقل لروح غادرتني “لا ترحلي” ، وتجلّى حينها روحُ الشعر قائلًا اكتب فكتبتُ و عهد الماء بيننا يكبر .)
قلتُ: ألمي ، يا أبتاه أعاق ذاكرتي، وقد امتحنت المدينة أدق الرموز .
- لم يكن ألمك سواك ، وقد ظننت بي الظنون . هأنت تعود.
( نبتون الكوكب القلِقُ يعد وليمته على طاولة الفلك ، وعيناه مكتظتان بروايتي السحرية )
أشرعت رئتي وقلت : ماذا تخاف وأنت أنت ؟
قال : ما الذي جاء بك يا بُني العاق ؟
قلت : العاق أم المفقود؟
( انتفض ،أجالَ وجهه الأزرق عنّي ، وأخذ يتمتمُ بلعنات المد والجزر على شاطئ الشعر الذي كان)
أعدتُ عليه سؤالي .
قال : لقد قطعتَ عهدًا وتركتَ بحرًا ، وأردَتْكَ الجدران ، انظر إليَّ ، لم أسلم منكم ، فيومًا أكون معبودًا ويومًا مهددًا بالنفي مثلما فعلتم ب ”بلوتو“ القزم الطريد .
( إن مثل هذه الجُمَل ، لا يقولها إلا صويحبي خلف الستار )
قلت : إن من لقنّك كل هذا ، أغواه ما لا أعلمه للآن .
صوت الناي يتعالي في أوداجي ، ولي بذلك ما للكنز من حظوة ، ابتسمتُ ظنًّا بأنَّ سحابةً ستمطر ، تنفستُ الصعداء ، توهّجَ الربيع في عيني ، أقبلَ الصبحَ وفيضٌ من الحلوى على وجنتيه ، أصبحَ كل ما بجمجمتي مهرجان يُتلى على مهرجان . كل ذلك في أهداب أهدابي ، وكما تُكسر زجاجة الفانوس بحجر ، وتنال نسمةٌ عابرة كل ما بالمكان من ضوء . تلاشيت بلا أمل ، وصوته في مسمعيَّ : لا تصدق ”الأرض“ .
- هل أدركتَ الآن ؟ ليس ألمك إلا إياك .
قلت : نحن في صراع وهأنت تعبث بأفكاري ، أنا لن أعود .
( ثقب في قلب الصورة ، مأزق البرواز أن كبرياءه في مهب التأفف ، أبصرتُ ما تعنيه كلمة ”حُطام“ ، وها هي الجفون الزائغة تختال في محكمة بلا عمَد )
”سيدي القاضي هل تبصرني ؟“ بكل ما باليُتم من صمت أليم قلتها .
– حكمت المحكمة بأنك مخطئ وتستحق الشعر
”سيدي القاضي هل تبصرني ؟“ نطقت بها معي ذاكرتي.
( كانت ذاكرتي تعني شيئا مختلفا ، اقتادوني لمتاهات لا أول لها وأما هي فتصدح بالمدى، لم تكن معاقة كما اعتقدت)
” أهذه هي الحرية التي تزعمها“ بلغة نبتون هذه المرة قلتها لمخرج المشهد الكئيب .
- ليس قيدك غيرك.
قلت : يا ألمي الذي لم أفهمه ، كيف أعرتني كل هذا الحضور وأسلمتني للغياب ، من أنت؟ ما أنت؟
(لم يجبني ).
عصام مطير