معضلة همبل (Hempel’s Dilemma)

يتقاسم مصطلح الفيزيائية والمادية المعنى المشترك في سياقات الحديث عن التعريف الذي يقول : أن كل شيء بما فيهم الوعي والعقل ، يمكن تفسيره من خلال العمليات الفيزيائية ، وقد نال هذا الاتجاه الكثير من الانتقادات برغم تقدمه حاليا على بقية الأطروحات التي تخص تفسير الوعي ، فعلوم الأعصاب مثلا داعمة لتفسير أن حالات الوعي ليست سوى حالات الدماغ (الأحداث الفيزيائية التي به) ، ومع ذلك فإن هناك فجوات كبرى بمثل هذا التفسير من بينها عجز المدرسة الفيزيائية تحديد ما هي تلك العمليات الفيزيائية بالتحديد وطريقة عملها لينشأ الشعور الذاتي للوعي بالإحساس بكافة أشكاله .
تأتي معضلة همبل (Hempel’s Dilemma) تحديًا للمادية ، وهي المعضلة التي طرحها كارل همبل 1969م ومازالت قائمة لليوم .
معضلة همبل (Hempel’s Dilemma) :
تأتي معضلة همبل (Hempel’s Dilemma) تحديًا للمادية ، وهي المعضلة التي طرحها كارل همبل 1969م ومازالت قائمة لليوم , فبناء على تعريف المادية/الفيزيائية القائل بأن كل شيء بما فيهم العقل/الوعي من الممكن تفسيره بالعمليات الفيزيائية فإن هناك خيارين :
- إذا عرّفنا “المادية” بناءً على الفيزياء الحالية، فهي على الأرجح خاطئة لأن الفيزياء اليوم لا تزال غير مكتملة، وقد يتغير فهمنا للطبيعة المادية في المستقبل.
- إذا عرّفنا “المادية” بناءً على الفيزياء المستقبلية، فهي غير واضحة، وتافهة لأننا لا نعرف ماذا ستكون عليه تلك الفيزياء بعد تطورها.
هل نحدد المادية وفقًا للعلم الحالي، حتى لو كان ناقصًا؟ أم نحددها وفقًا للعلم المستقبلي، حتى لو لم نعرف مضمونه بعد؟ من يستطيع التنبؤ بما ستحتويه الفيزياء المستقبلية؟ ”ربما، على سبيل المثال، قد تحتوي على عناصر عقلية أيضًا“.
وبعبارة تفسيرية : المعضلة تخلق مشكلة كبيرة للماديين الذين يحاولون تفسير الوعي والعقل بلغة الفيزياء
إذا كان العقل ماديًا تمامًا، لكنه غير قابل للتفسير بالفيزياء الحالية، فهذا يعني أن فهمنا للمادية غير مكتمل أو خاطئ وإذا كان العقل غير قابل للتفسير حتى بالفيزياء المستقبلية وهو احتمال وارد، فقد يشير ذلك إلى أنه ليس ماديًا بالكامل، بل يتطلب نظرية تتجاوز المادية التقليدية ، وبلغة الأسئلة :
هل يمكن للفيزياء الحالية أن تفسر جميع مظاهر العقل، مثل الوعي والإدراك والتجربة الذاتية؟
إذا كانت الفيزياء غير مكتملة، فهل يمكن للمادية/الفيزيائية أن تظل صالحة كتفسير للعقل؟
هل يمكن أن تحتوي الفيزياء المستقبلية على مفاهيم غير مادية (عناصر عقلية) ، مثل حالات الوعي، مما يجعل تعريف المادية متناقضًا؟
هذه التساؤلات تجعل معضلة همبل إشكالية جوهرية لأي محاولة لتقديم تفسير مادي شامل للعقل والوعي عما بأن هذا الانتقاد يدعم انتقادات أخرى للمادية ، تدفع للاتجاه نحو الثنائية ، أو القول بالمادية غير الاختزالية Non-Reductive Materialism ، اتي تقبل بأن الوعي ينبثق من العمليات الفيزيائية لكنه لا يمكن اختزاله تماما بالعمليات الفيزيائية .
الردود على معضلة همبل :
جاءت الردود على المعضلة بطرق مختلفة بعضها يقول أن الفيزيائية ليست ملزمة بأن تكون مرتبطة حرفيًا بالفيزياء الحالية، ولكنها تُفهم على أنها التفسير العلمي الأفضل المتاح في أي وقت ، هذا يعني أن الفيزيائية قد تتغير مع تقدم العلوم، لكنها لا تصبح بلا معنى، بل تبقى إطارًا عامًا يُحتفظ به.
يشبه هذا النهج طريقة عمل العلوم الطبيعية نفسها، حيث تُعدل النظريات العلمية عند ظهور أدلة جديدة دون أن يجعل ذلك مفهوم “العلم” نفسه غير واضح .
بعض الفلاسفة يرى أن مفهوم “الفيزياء” يجب أن يُفهم على أنه مفهوم متعدد الطبقات يشمل نظريات متباينة مثل الفيزياء النيوتونية والفيزياء الكمومية، مما يعني أن المادية ليست مقيدة بتعريف فيزيائي واحد وهذا يشبه مفهوم التشابه العائلي عند فيتغنشتاين، حيث لا يوجد تعريف صارم لماهية النظرية الفيزيائية، ولكن هناك مجموعة من السمات المشتركة التي تربطها ببعضها البعض وهو قول مقارب لما يطرحه بعض الفلاسفة بحجة مفادها أن تعريف المادية لا يجب أن يعتمد على نظرية فيزيائية معينة، بل على فكرة أكثر عمومية تتعلق بالخصائص الفيزيائية فعلى سبيل المثال، حتى لو كانت فيزياء القرون الوسطى خاطئة، فإن المفاهيم الفيزيائية التي اقترحتها مثل “الدافع” (impetus) لا تزال تُعتبر فيزيائية.
لذا، من الممكن القول إن المادية ليست مرتبطة بفيزياء محددة، بل بمجموعة من الخصائص التي تُعتبر فيزيائية بغض النظر عن النموذج النظري المستخدم.
واقع المعضلة اليوم :
مع كل هذا الجدل بقت معضلة همبل حتى الآن، لا يوجد حل نهائي لها فكل محاولة لحلها تواجه اعتراضات، مما يجعلها واحدة من أكثر التحديات تعقيدًا في فلسفة العقل. ومع ذلك، يمكن القول بأن النقاش حول معضلة همبل يساهم في تحسين فهمنا للعلاقة بين الفيزياء والفلسفة، ويدفع العلماء والفلاسفة إلى تطوير نظريات أكثر شمولية حول طبيعة العقل والواقع.
قدم همبل انتقادا إضافيا للفيزيائية وهو ما نختم به مقالتنا عن معضلته في عام 1980م :
أود أن أضيف أن الادعاء الفيزيائي بأن لغة الفيزياء يمكن أن تكون لغة موحدة للعلم هو في جوهره غامض. أي لغة من الفيزياء يُقصد بها هنا؟ من المؤكد أنها ليست لغة الفيزياء في القرن الثامن عشر، على سبيل المثال، لأنها تحتوي على مصطلحات مثل “السائل الحراري” (caloric fluid)، التي كانت خاضعة لافتراضات نظرية يُنظر إليها الآن على أنها خاطئة.
وبالمثل، لا يمكن اعتبار لغة الفيزياء المعاصرة لغة موحدة للعلم، لأنها بلا شك ستخضع لمزيد من التغييرات في المستقبل. يبدو أن أطروحة “الفيزيائية” (Physicalism) تتطلب لغة يمكن من خلالها صياغة نظرية حقيقية تفسر جميع الظواهر الفيزيائية. ولكن من غير الواضح تمامًا ما الذي يُقصد هنا بـ “الظاهرة الفيزيائية”، خاصةً في سياق عقيدة اتخذت منحًى لغويًا بشكل واضح.
المراجع
١. PHYSICALISM, 2010, p93-105 ، Daniel Stoljar
٢. Hempel, C. 1980, ‘Comments on Goodman’s Ways of Worldmaking’,
٣. Non-physicalist Theories of Consciousness , Hedda Hassel Mørch , 2023 , p 8
مراجع إضافية :
Hempel, Carl. “Problems and Changes in the Empiricist Criterion of Meaning” (1969).
Crane, Tim & Mellor, D.H. “There is No Question of Physicalism” (1990).
Smart, J.J.C. “The Mind/Brain Identity Theory” (1978).
Lewis, David. “Reduction of Mind” (1994).
Melnyk, Andrew.”A Physicalist Manifesto” (2003).
قراءات فلسفية / منصة ركائز / كتبها عصام مطير