مطلع الشعر ، التكوين والتلاشي
أخذ مطلع الشعر اهتمامًا عند القدماء ودراسات لا حصر لها في اتجاهات النص وتأثيراته إلى يومنا هذا ، وما أسّسَ نحو ذكرِ الديار والأطلال عند الكثير من شعراء الجاهلية وصدر الإسلام وامتدادًا لغيرهما من العصور وكذلك ما أسّس نحو مساراتٍ أخرى عند غيرهم من الشعراء ، وليس هذا حصرًا على النقاد بل حتى عند المتذوقين والممدوحين ، فقد أورد مثلًا ابن قتيبة بكتابه الشعر والشعراء ، قصة أحد الرجاز الذي مدح نصر بن سيّار بقصيدةٍ كان بها الغزل مائة بيت وأما موضوعها الأساسي في مديحه كان بعشرةِ أبيات فقال له نصر : “والله ما أبقيت لي كلمة عذبة ولا معنى لطيفا إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك ، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب” فجاءه بعد ذلك الشاعر بقصيدة أخرى لم يكن تأسيسه بها إلا شطرا ثم بدأ بالمديح :
“هل تعرف الدار لأم غمرِ
دع ذا وحبِّر مدحك في نصرِ”
فقال له نصر : “لا ذلك ولا هذا ولكن بين الأمرين “
لقد كانت مطالع النصوص ومازالت تمثّل قيمة نفسية للشاعر حتى يصب بعد ذلك غرضه الأساسي أو يغوص في غرضه منذ البداية ، وقد اهتموا بالتنسيق وحسن التخلص حين تتطرق القصيدة بمطالع غزلية ثم تنحو نحو غيرها من المواضيع، وفي هذا العصر برزت عدة دراسات للمستشرقين حول (الوجودية) عند شعراء الجاهلية ومطالع شعرهم ، أمثال المستشرق الألماني (فالتر براونة) في مقالته : “الوجودية في الشعر الجاهلي”،
التي نشرها بمجلة المعرفة السورية مفسرا مطلع الغزل/النسيب:”وهذا الموضوع هو اختبار القضاء والفناء والتناهي ” ، وقد علق على معلقة عبيد بن الأبرص:
“هل هذه الأبيات لشاعر قديم؟ أم لأحد الشعراء الوجوديين في وقتنا هذا؟ أما نعرف صوت هذه الصرخة في الشعر العصري حقيقة؟”
ومن الممكن الاطلاع على مختلف الآراء في بحوث وكتب مختلفة تناولت مطالع الشعر لكن ما يهمنا نحن في المطلع هو قراءتنا لحركتنا الذهنية معه منذ الكلمة الأولى ، وهي قراءة في عمق الذات وتفاعلنا مع النص المقروء أو المسموع ، وإدراكنا لمسيرتنا الخارجية بالتزامن مع مسيرتنا الداخلية ، ذاك التدفق المزدوج بين أن أكون ، وأن أتلاشى.
الحركة الذهنية ، الاتجاه مع النص :
بقصيدة إيليا أبي ماضي : الشاعر ، التي كتبها على عدة بحور من الشعر : الكامل والوافر، والبسيط وقد أبدى بها أساليب مختلفة وفلسفة عميقة ، بدأ مطلع قصيدته بـ:
“قالت وصفتَ لنا الرحيقَ وكوبها
وصريعَها ومُديرَها والعاصرا ” ،
البدء بـ “قالت” حشد كل انتباهنا في المطلع لهذه القصيدة ، من خلال : “الأنثى” ومخاطبة “الشاعر” ، وتوقعنا بأن المطلع بـ”قالت” يعني صراعًا (اعتراضًا ) حتى حين نعدّه إخبارًا وقد يتسلل لنا أثناء ذلك أن (قالت) مطلعًا للغزل فهذه مقدمة شعرية متداولة بكثرة لكن حتى لو كانت كذلك فهو غزل في رحاب الإشكاليات المتوقعة ونحن (المتلقين) بكافة الأحوال قد بدأنا الخروج عن ذواتنا وهو فحوى ما قاله الفيلسوف الأمريكي رورتي (الأدب يُبرئنا من عبادة الذات) ، فالنص مطلعه يعني دائمًا الدخول لعالم الآخر وهو من صنف ما قاله أيضًا كانط في كتابه نقد ملكة الحكم : “أن تفكر جاعلا نفسك في موضع أي إنسان آخر”
وبالتالي هو ذروة انتباه ويهمنا بالشعر أن يكون انتباهًا مع سياق يجذبنا للاستمرار ، لا انتباهًا مع انغلاق مثل أن يكون المطلع بيت حكمة ، فالحكمة تعني الاكتفاء وجاذبية الاستمرار بالنص بعدها ستكون منخفضة على غير ما تفعله المطالع التي تبدأ بالتخييل والحكايات ، حيث جاذبيتها في كونها تدعوك لمعرفة النهاية ، أو ما القصة بالضبط؟ والمطلع يهيئ المتلقي ومن له اطلاع مكثف بالشعر سيجد أن جاذبية النصوص تحتاج للمزيد من البراعة الأسلوبية لتحافظ على مستواها لديه وإلا فإن استمراريته بالقراءة أو الإصغاء ستقل ، فـ”قالت” حين البدء بها ، نكون في مستويات فهمها عند احتمالية الصراع/الاعتراض ، مع احتمالية (الإخبار عن) لكنه إخبار يحمل في طياته أيضًا حدثًا شاعريًا فحين أستمع لأي نص شعري أتوقع أسلوبا ما وأتجهز بعاطفتي نحو إثارات ما وحين نعود لقولنا “قالت” بحديثنا اليومي فنحن نخبر ونوجه اهتمام المتلقي بشيء ما في ذاكرته وصراعاته الخاصة ، وهو تواصل مع رؤى أخرى للأحداث يثير رغبتنا بأن نقول نحن موقفنا : قالت كذا وكذا ، فقلت لها كذا كذا ، أو حدث كذا وكذا ،
إن هذا النسق من الإخبار ذو حراك كبير في يومياتنا الحية لا الميتة ، وبالتالي فإننا حين نسمعها بالشعر نكون مهيئين لمستويين ، مستوى يخص حيويتها بيومياتنا ومستوى يخص حيوية الشعر ذاته وبالشعر يكون أُفُق توقعاتنا بالقصص والاعتراض أكبر بفعل ظاهرة الشعر بأعيننا وتجاربنا وبفعل اللغة وبراعتها الإيقاعية ، وحين نبدأ النص بمطلع “قالت” ، فقد شدنا الشاعر بلا مقدمات ولا تهيئة نحو مقصده ، وعموما بالشعر تكون المطالع متفاوتة التأثير بناء على تركيبتها وبناء النص كله ، والمطلع هو الانتقال من حالة وعي واقعية إلى حالة وعي خيالية ، بالنسبة للمتلقي وأما للشاعر فهو انفجار الإلهام وهطوله المفاجئ ، وقد أحسن نزار قباني حين وظف هذه الأهمية وهذه الإمكانية الجمالية في قصيدته الغزلية حين قال :
“وجهكِ .. مثل مطلع القصيده
يسحبني ..
يسحبني ..
كأنني شراع .
ليلاً ، إلى شواطئ الإيقاع .
يفتح لي ، أفقاً من العقيق
ولحظة الإبداع
وجهك .. وجهٌ مدهشٌ
ولوحةٌ مائيةٌ
ورحلةٌ من أبدع الرحلات
بين الآس .. والنعناع“
نزار قباني
ومطالع القصائد لها مظاهرها المختلفة ، وقد عرف العرب المطالع بالشعر القديم بطريقة المقدمات كما أسلفت ، فذكر الديار والأطلال تمهيدٌ لغرض القصيدة ، يقول ابن قتيبة ناقلا عن غيره :” قال أبو محمد وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار ، فبكى وشكا وخاطب الربع ، واستوقف الرفيق ، ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها “.
إن ذاك ما عليه غالبًا قصائد الماضي التليد ، لكن الشعر اليوم بنزعته التجديدية لم يعد بذوق قبلي/جماعي فالفردية ونزعة التأثير أكبر على الذات والمجتمع معًا ، مما دفع لمخاطبة الأنثى في مضمار غير مضمار (الغزل) لقد أصبح التفكر والتفكير بالظواهر من مهام الشعر الرومانسي والرمزي وقد اتجه الأكثرية نحو موضوع النص غالبا بلا توطئة أو تنوع ، وقد نالت الحكاية/القصة موضعها بالشعر العربي، فها هو إيليا يوظف الحوار القصصي منذ البداية في تفسير ظاهرة “الشاعر”، ويشدنا بمطلع نظنه غزليا لكننا مع الاستمرار به نجد الأنثى متسائلة عن كينونة الشاعر ، واختياره للأنثى لا الجماعة ، ولا أي كائن آخر هو اعتراف ضمني بروح الحياة المتوثبة في نفس الأنثى وفق نظرة الشاعر .
“قالت” ، إذن هي لحظة الإصغاء عند الشاعر وعندنا ، فقالت للشاعر هي لحظة استرجاع (ذكرى ما قالته) ، وهي عندنا لحظة الاستماع إليها من خلال الشاعر ، وهي إحيائية ، فقد جلبنا الشاعر لذاكرته ، لكن هل هذا الحوار قد حدث فعلا ؟ لا بالطبع ، هذه قصة مختلقة تنقلنا لخيال الشاعر لكن وعينا بالاختلاق سيأتي متأخرًا مما يزيد من شاعريتها في ذواتنا وبالتالي فنحن نحيي (بالإصغاء للاختلاق) عدمًا ، وهذه شاعرية خطرة في ذواتنا وشعرية متفجرة في النص ، لأنها تستوجب احترافية عالية مع مكونات الحوار والقصة . “قالت” أيضًا هي مدخل المشهد الشعري ، وقد بدا منها ما يدخلنا في الحوار ( وصفتَ لنا ، الرحيق وكوبها وصريعها ومديرها والعاصرا ) الخمر بكل مراحلها ، والقافية (العاصرا) أدخلتنا بالبيت الذي يليه : والحقلَ والفلاحَ ) :
قالَت وَصَفَت لَنا الرَحيق وَكوبَها
وَصَريعَها وَمُديرَها وَالعاصِرا
،
وَالحَقل وَالفَلّاحَ فيهِ سائِراً عِندَ المَسا
يَرعى القَطيعَ السائِرا
،
وَوَقَفتَ عِندَ البَحرِ يَهدُرُ مَوجُهُ
فَرَجِعتَ بِالأَلفاظِ بَحراً هادِرا
،
صَوَّرتَ في القِرطاسِ حَتّى الخاطِرا
فَخَلَبَتنا وَسَحَرتَ حَتّى الساحِرا
،
وَأَرَيتَنا في كُلِّ قَفرٍ رَوضَةً
وَأَرَيتَنا في كُلِّ رَوضٍ طائِرا
،
لَكِن إِذا سَأَلَ اِمرُؤٌ عَنكَ اِمرَأً
أَبصَرتَ مُحتاراً يُخاطِبُ حائِرا
،
مَن أَنتَ يا هَذا فَقُلتُ لَها أَنا
كَالكَهرُباءِ أُرى خَفِيّاً ظاهِرا
،
قالَت لَعَمرُكَ زِدتَ نَفسي ضَلَّةً
ما كانَ ضَرَّكَ لَو وَصَفتَ الشاعِر
إن لفظ “العاصر” بالبيت الأول ضم معنويًا (العنب/الثمر) ومن خلال هذا الاستحضار بالمشهد دخلنا إلى ما قبل العصر (الحقل والفلاح) ولإتمام المشهد بطريقة شعرية ، جاء الحديث عن تفصيل بسيط (الفلاح فيه سائرًا) وقد منحنا هذا التفصيل منظرا جزئيًا ، ورومانسيا ، يعبّر عن المعتاد لكنه في إطار مشهد جذاب (استرسال يدفعنا للإصغاء لمعرفة ماذا تريد قوله ) وحين اكتمال منظر الفلاح : سائرًا عند المسا يرعى القطيع السائرا )
انطلق الشاعر بعد ذلك على لسان مخاطبته ليؤسس لمشهد آخر مرتبط بالشاعر : المشهد الأول كان عن “وصفه للخمر ومشهد الشراب ، وماسبقه الحقل والقطيع والراعي “، إنه وصف تداعى فيه مشهدان أسّسا لعلاقة زمنية عكسية ، وأما المشهد الجديد في التقسيم : “ووقفت عند البحر يهدر موجه” فإنه الشطر الذي أكمل التنوع بالمشاهد والنزعة للطبيعة [في سياق الشعور والذاكرة ] لكنه أيضًا في سياق المعاني له محله ، فما الذي جاء به ؟ إنها علاقة الشاعر باللغة ، الألفاظ “فرجعت بالألفاظ بحرًا هادرا” ، لقد نقلنا الشاعر ضمنيًا للغة وكيف للشاعر ما ليس لغيره ، وهنا برزت فكرة النص ، إنه خطاب يتجه نحو الشاعر لا العاشق ، وبدا لنا أننا نمسك بخيط الموضوع
الحركة الذهنية ، ذوات الأشياء والذاكرة :
إن مع استمرارنا في قراءة نص إيليا وتدفقنا في البيت تلو البيت سنجد كيف استطاع الشاعر أن ينتقل في كل ذلك بتنوع جميل بين ذوات الأشياء ، فالشاعرية بالذات هي شاعرية الانتقالات بين ذوات الأشياء في ذاكرتنا ومعانيها قبل أن تكون إزاحة وانزياحًا ولتوضيح هذه النقطة سنلقي النظر على مطلع قصيدة السياب : حنين في روما ..
” يتثاءب جسمك في خلدي
فتجنّ عروقْ
عريان تزلّق في أبدِ
تنهيه الرعشة فهي شروق
في ليل الشهوة كل دمي
يتحرق يلهث ينفجرُ
و يقبّل ثغرك ألف فمٍ
في جسمي تنبتها سقرُ
و أحنّ أتوق”
السياب
إنني أعتبر مطلع شعره هذا هو أجمل ما قيل شعرًا في وصف الرغبة الغرامية ، وقد برع الشاعر في الانتقالات بين الذوات وتأسيس محاكاة نارية لرغبة حب جامحة :
” يتثاءب جسمكِ في خلَدي فتُجَنُّ عروقْ..
عريانُ تزلّقَ في أبدي
..تُنهيه الرعشةُ، فهي شروقْ.. في ليل الشهوة كل دمي…”
الحركة الشعرية لم تبدأ بالانزياحات في استعمال الألفاظ بغير موضعها (الاستعارة) بل بدأت بالذهن أولًا ،
في الخيالات التي فاض بها تعبيرًا عن حركة الذات وسيطرة العاطفة وتشكّل الاضطراب بناءً على (الرغبة بالخلاص من خلال الحب/الجنس، الذكريات ، الانتماءات، النمط الذي يعي الإنسان فيه ذاته) ،
ويوافق هذا ما قالته “بربارا” إحدى شخصيات رواية المساكين لمؤلفها ديستوفسكي :
“فلديك الأحلام الوردية ، والعواطف الرقيقة المتدفقة ، ولا أحسب الوزن والقافية يعييانك ”
… المساكين / ديستوفسكي
نعود لشاعرنا السياب فقوله: “يتثاءب جسمك” ، إنما هو خيال نفسي قادم أساسًا من كون العلاقة الحميمية التي هي فرار من الزمن بوجه من الوجوه ، وذوبان المكان أيضًا ، ليست سوى تلاشي الشيئية بالانغماس والخدر ، فالتثاؤب جاء من الارتباط بين الرغبة وتدهور السيطرة العقلية ، وهو حين قال تثاءب إنما تحدث عن بدئه عنده هو ، وبالنسبة لنا يكون دخولنا لعالم النص ينطبق عليه ما قلناه سالفًا لكن الأمر سيختلف من حيث “الذوات” فنحن إذ ننتقل للنص سماعا أو قراءة نفعّل وعينا نحو ذوات الأشياء الشعرية أيضًا وأثرها علينا وهذا المعنى أبينه بالفقرات القادمة . وقوله “في خلدي” ، هو انتقال شعري وشعوري بين ذوات يستمر الشاعر في الانتقال بينها طيلة النص لأنها من جانب تدخل بطور تداعي الأفكار ومن جانب آخر تعمل على جلب الانسجام مع السياق والجموح ، نحن نقرأ الألفاظ وبالوقت نفسه نفعّل الذوات المقصودة في ذاكرتنا ووعينا عمومًا ونتأمل الروابط بينها ، وما وجه العلاقة ، وكيف يدلنا الشاعر على روابط جديدة فيما بينها:
(جسم ، خلَد ، عروق ، عريان ، أبد ، رعشة ، شروق ، ليل ، شهوة ، دمي ، يتحرق ، يلهث ينفجر ، فم)
نلاحظ الانتقالات بين الجسمانية/الأعضاء و المعنويات والفعال ،
بين الأزمنة الماضية والحالية والمستقبلية، وبنهاية الفقرة استخدام للرمز “سقر”،
وهكذا تأتي اللغة ثانوية وتختزل حراكًا ضخما بين الذوات في عمق نفس الشاعر وبذواتنا أيضًا ولأن شاعرية السياب أكبر من كونها “شاعرية مراهق” فقد صنع “التوظيف” ، التوظيف الشعري هو العمل على إعادة استخدام المشهد الشعري بالنص داخل مشهد أكبر منه ، فهذا المشهد السابق للرغبة الغرامية ، وظفه السياب بمشهد الحنين للوطن ومهاجمة الواقع هناك بعد أن منح غضبه ظهورًا بالنص ، لأن ذهن الشاعر حال الإلهام (أثير به عذابات أخرى من الحرمان) فيقول :
“من جوع صغارك يا وطني ، أشبعت الغرب وغربانه”
كان هذا بمنتصف النص الذي استطاع أن ينزاح فيه من حنينه لحبيبته إلى حنينه لوطنه ،
وقد جاء هذا الانزياح بكون العاشق مطاردًا بالشكوك واللوم مما ساعد في توظيف الغرام بالغربة ، الرغبة باللقاء بالرغبة بنهضة وطنه ، ولوم الغريب /الغرب. نحن إذ نقرأ مثل هذا النص نقوم بحراك ذهني شعوري للوصول إلى الترابط والتماسك بالنص في أعيننا بالتزامن مع ترابط وتماسك الذوات في ذكرياتنا وأذهاننا ، وقد يمنحنا هذا لذة التجربة الجديدة للذكرى بمنحها معنى إضافيا جديدا مما يجعلنا نعيش تجربة اللغة مرة أخرى كما كنا نفعل بطفولتنا .
بقصيدة إيليا ومطلعها الذي ناقشناه بالفقرات الأولى سنجد هذه الذوات : (الوصف ، الرحيق ، الكوب ، المدير ، الصريع ، العاصر ، الحقل ، السير ، القطيع ، المساء ، البحر ، الألفاظ ، الموج ، الهادر ، ………
لقد قدّم الشاعر، أعدادًا كبيرة من الذوات ، في أذهاننا وبترابط سلس ، وتنويع وأصبحت حركة الذهن أيضًا بتدفق ذي سرعة متقاربة فلم يكلفنا مجازًا بعيد المنال خلال أبياته تلك مما يدفعنا للبطء لمعالجته من خلال التدقيق وفك الترميز ، وبهذا كانت شاعرية النص في ذواتنا – بالإضافة للمطلع الذي يمثل انعطافا نحو الخطاب الشعري – هي حركة نفسية متعددة الأثر بتعدد الذوات ، ومن خلال المطلع تلاشى شعورنا بالزمني المحيط واندمجنا بالزمني في النص ،
وقد تقهقر الكون إلا ما هو بالنص بارزًا ويقودنا بارتباطه بالذاكرة [ذوات الأشياء]، وقد حقق الشعور بالذات/النفس من خلال تجربتها بالجديد في العلاقات بين الذوات/الأشياء من خلال رؤية لا تخصنا ألا وهي رؤية الشاعر ذاته ، وبكل وصول ذهني لذات [أُشير إليها بلفظ في النص] يكون تلاشينا من عالمنا الواقعي وتكوّنا في عالم النص ، في عالم الذات المكتوبة بالنص ،
للحديث بقية
عصام مطير
الرسمة الملحقة للفنانة البريطانية تيريسا فيتون Theresa Fitton
المراجع :
ديوان إيليا أبي ماضي ،
قصيدة الشاعر ديوان نزار قباني :تزوجتك إيتها الحرية ، 1988م
الشعر والشعراء ، لابن قتيبة والشعراء ، الجزء الأول ، ص٧٦
الوجودية في الشعر الجاهلي، التي نشرها بمجلة المعرفة السورية ١٩٦٣ العدد الرابع ص١٥٧-١٦١
الأدب في خطر ، تودوروف ص
نقد ملكة الحكم ، كانط
رواية المساكين ، ديستوفيسكي ، ترجمة صوفي عبدالله ، طبعة آفاق الأولى ص٢٣
بدر شاكر السياب ، الأعمال الشعرية الكاملة ،منشورات تكوين ، المجلد ١ ، ص٥١٨