الشاعرية وتراسل الحواس
في خضم مراجعتي لكتاب أوكتافيو باث ، الشعر ونهاية القرن 📚، قرأت هذا النص البديع الذي استشهد به المؤلف في حديثه عن القراءة ، لكن النص أثار لدي سؤال الجمال ، وتلك المهارة الشاعرية في تهيئة الوعي لتقبّل بل للتلذذ بتراسل الحواس:
”منسحبًا إلى سلام هذه الصحراء ، مع مجموعة من الكتب ، قليلة لكنها حكيمة ،
أعيش في حوار مع الراحلين
وأصغي إلى الموتى بعيني“
إن الشاعر كويفيدو بنصه السابق أثار الشعرية )باللغة) والشاعرية (بالذات) عبر تراسل الحواس ، ويُقصد بها نقل مدركات حاسّة من الحواس إلى مدركات حاسّة أخرى (وأصغي إلى الموتى بعينيّ)، وقد اختلف استغلاله لهذه المهارة عن غيره في كونه صنع المشهد ، والمشهد بالشعر هو أهم مستويات الشاعرية.
“أعيش في حوار مع الآخرين ، وأصغي إلى الموتى بعينيّ” ، قد حقق لنا ما قاله بلنسكي عن الشعر ”إنه تفكير بالصور“ فنحن من خلال المشهد/التصوير نفكر بطريقة أعمق من مباشرة الألفاظ/الرموز. لاحظوا أيضًا أن التخييل هنا وقابليتنا له متفاوت فقليل الشاعرية من القراء سيعجبه الإصغاء بالعينين من ناحية بلاغية لسانية (شعرية الانزياح) ، لكن المشهد عند أهل الشاعرية الكثيفة ، في مقام المشاهدة،
إن الأموات بأجسادهم أمام الشاعر القارئ وهو يصغي بعينيه
الإصغاء هنا سينزاح أيضًا ضمنيا ليحمل معنى التأمل بالبصر ،
وفي طيات ذلك مما لا يعيه بعضنا :
الرعب في كون الأموات أحياء أمامك، لكنه رعب خفي وقد بُنيت لذة الدهشة على استحالة العودة واستحالة الاستماع بالعينين ، فالشاعر أقام المستحيل المتحقق للآخرين (الموتى) عودتهم ، ومستحيله المتحقق (عيناه المستمعتان)، ومن خلال الاستحالتين حقق شعور الإعجاب للمتلقي ، وقد وافق ذلك اعتبار معنوي بكون الاستماع والنظر الحاستين الأعلى من غيرهما من الحواس ، وهو معلوم بالفطرة لكن لا مانع من ذكر ما قيل بالتراث الفلسفي كقول سقراط في محاولاته تعريف الجمال :
“لست أرمي إلى إدراج جميع اللذات بل ما نستمتع به عن طريق حاستي السمع والإبصار لدينا فحسب”
وبعيدًا عن جدل الحواس ، إن كل ما سبق من معاني للنص يمر بنا جميعًا حين قراءة النص إلا أن
التفاوت في الشعور والاختلاف بيننا جاء لكون النابع من النص وجودًا إما أن يجري بالوعي أو بأجزاء منه ، وما تبقى يكون كامنًا أو مثبطًا في “لا وعينا” ، وهنا يتفتق معنى الشاعرية حيث أنها من ناحية إدراكية عندي : حجم ما يستطيع وعينا تلقائيًا إدراجه حسّيًا (المشهد ، الصورة ، الخيال) من النص بالطريقة التي يتفوق بها على تلاشيه وانعدامه في كثبان اللاوعي.
إن الشاعرية خلافًا للنفسية ، هي تصميم واعٍ يقود وجوده من خلال الحضور بالمشهد وتأويله ومنحه حياةً وهو التأويل الذي يختلف عن تأويل النقد للنص ، فالنقد حتى لو وصفًا هو اختزال لما يكون منسابًا ومتواجدا بلا حدود في أذهاننا ، وقد صدق تودوروف في نقده للنقد بكتابه الشعرية حين قال :“والحقيقة أن تأويل عمل أدبي أو غير أدبي لذاته وفي ذاته دون التخلي عنه لحظة واحدة ودون إسقاطه خارج ذاته ، لأمر يكاد أن يكون مستحيلا ، أو هذه المهمة بالأحرى ممكنة لكن الوصف لن يكون إذ ذاك إلا تكرارا حرفيا للعمل نفسه، فهو، يلاحق عن قرب أشكال العمل بحيث لا يكون الإثنان إلا شيئا واحدا ، فالوصف الأفضل للعمل هو العمل نفسه“ ، أما بالنسبة للتأويل الذي يقوده الوعي عند كل قارئ لا أقول أنه متفق عليه بل من المعروف اختلافه بين القراء لكنه أضخم من الكلمات ومهمة التعبير عنه ، وهذا هو الأساس ، فالشاعرية وعي وأما التعبير عنها فهو لغة قد يحمل الكثير منا ضحالة في استخدامها ناهيك عن كونها بالأساس تختصر الكثير وتقفز لعجزها كميات هائلة من المعاني الحاضرة بالوجدان.
بشار بن برد وتراسل الحواس
في مهمة الإبداع الشعري ، وبالدراسات التي تُعنى بتراسل الحواس ، عادة ما يحضّر بشار بن برد بصفته أيقونة لتراسل الحواس بالشعر العربي إلا أنني أجده مختلفًا عن المقصود في نشأة ومسار الاستخدام بين الحواس وغايتها ، فبشار الأعمى يستخدم السمع واللمس في معرفة العالم ، وأي استخدام لهما في مواضع الشعر ليس شاعرية بل اتجاها معرفيا ، وأما شاعريته الحقيقية فهي باستخدام الرمزية المستحيلة الفهم بالنسبة لو كان كل البشر عميان وهو يتحدث عن النجوم مثلا ، وهنا تكون شاعريته بالتواصل مع المبصرين وفق ما يمكن التعبير به عما يدور في ذهنه بالاستناد على أذهانهم فهو لا يعلم بتاتا ما هي الكواكب بقوله :كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه“ ، وبالتالي فإن عالم بشار بن برد الشعري هو عالم استثنائي تماما لا يمكن الاستناد عليه في أمثلة تراسل الحواس ، لكنه قد يفسر لنا لماذا يلجأ الشعراء ”المبصرين ” نحو هذه الوظيفة الشعرية بطريقة تلقائية بعيدا عن كونهم اكتسبوها من خلال التناص والتأثر ، إنه العمى الرابض في العمق النفسي عند كل شاعر حين يكون التمييز بين الحواس محالا ويضطر الشاعر للتراسل كاضطرار بشار بن برد ”الأعمى“ لاستخدام أداة اللمس للتعرف وهو ما يشهد له
قوله لجاريته :” أُمامة قد وُصِفت لنا بحُسْنٍ
وإنا لا نراك فالمسينا“
وهذا الاضطرار بالطبع ليس دائمًا فهناك من يوظف الحواس ويدمج لأنه يريد إحداث المبالغة وهو الغرض الذي لا ينطبق على بشار أيضًا.
فرويد وتقنيات الشعر
لفرويد مقالة عن الشعر ، تحدث بها عن نقطة مهمة جدًا قد انتبه لها وهي ”أنا الشاعر وخيالاته أمام أنا الآخرين“ مما يدفع للتصادم أو التجاهل فالشاعر عند فرويد ”حالم يقظة“ يخفي أحلامه لخجل البوح بها حتى لو باح فسيتجاهلها من حوله لكن نجاح الشاعر وسر عبقريته بأنه يعرض أحلام اليقظة التي تخصه من خلال القافية/الشعر ونحن نستمتع بها عبر تقنيته بتليين الأنانية لحلم اليقظة بالتغيير وإخفاء الرغبات وتسليتنا برغبات إستطيقية جمالية خالصة ، ويكمل فرويد تحليله ” وقد يساهم الشاعر في وضعنا في حالة نتمتع فيها بمتعة خيالاتنا دون متاعب وخجل“ ولعل جزءا مما قاله فرويد ينطبق على تراسل الحواس في كسر القيد ومنح لذة المغايرة ، ومن ثم تأسيس التواصل بين الشاعر والقارئ من خلال التقنيات الشعرية بالنص ، وهذا مدخل لموضوع ضخم سأتناوله مستقبلا .
عصام مطير
الرسمة الملحقة للفنانة البريطانية راشيل تول Rachel Toll