يقول عمر أبو ريشة وقد مرَّ بصرح روماني:
قفي قدمي ! إن هذا المكانَ
يغيبُ به المرءُ عن حسِّهِ
،
يهمني بهذا المثال : العمل الشعري الذي مزّقَ العلاقة بين الذات والجسد فمنح القدم شكليًا القدرة على الإصغاء وفهم الخطاب،
ونقَلَ الإرادة من كونها تلقائية (مكانها القلب) وتتجاوز الحديث إلى أحداث تستغرق زمنًا وحوارًا ،
إن الشعر هنا يكشف عن ثنائية الروح والجسد ضمنيًا ، فهذه الروح التي عند معظم الفلاسفة ، العقل بكل أعماله الذهنية والحسية ، يواجه آلة الجسد ، عبر ما كشفه الشعر لنا على لسان الشاعر الذي أراد تبيان مدى ما به من ذهول وعاطفة أمام التاريخ المحطم ، ليبصر التشظي في وجوده :
الروح المخاطبة للجسد "قفي قدمي" ،
ولأن الشعر يُحيي في عالمه كل شيء (خيالًا) ، فقد منح القدم ذاتًا مخاطبة ، وقدرة على الإصغاء ، والاستجابة بأحد احتمالات النص ، وأيضًا يعمل الشعر من خلال إشارة للصراع بين الإرادة والآلة ، وهو بهذا المعنى مقاومة للجمود المادي ، الذي يعني الموت ، فالصراع بين الإرادة والآلة ب "قفي قدمي" هو ذاته الصراع بين الشعر واللغة ، فاللغة بالنهاية آلة لكن الشعر هو الإرادة الحية.
إن الشعر في كونه ملاحظةً ووصفًا دقيقًا للشعور النفسي ، ولكونه أيضًا تمزيقًا وتفكيكًا للأنا والعلاقات الضمنية والخارجية ، هو فلسفة في المراحل المتقدمة منه ، خاصة تلك التي يصل إليها الشاعر ويدرك فيها تشظّيه وهذا ما حلّ بعمر أبي ريشة ،فقوله "قفي قدمي" هو طريقة تفكير فلسفية ممتدة من الزمن الشعري التليد ، و كذلك فإن "قفي قدمي" استغراق في اللحظة ، وتكبير لما يجري بها ، ومن ثم فإنه تمزيق للعلاقات وإعادة تشكيل الذوات ،
وهذا التكوين التفكيري ، يفسر لنا التطور بموهبة الشعر ، إذ تأخذ سنوات طويلة يُصهر بها الاعتياد النظري للأمور ثم يصاغ مرة أخرى ليكون قدرةً على إبصار الحركة النفسية بالذات وتفكيكها وهو نضج فلسفي قد يكون مبكرًا عبر اللغة وما هو مميز للشعر فيها ، يتناقلها الشعراء ويرثونها من عوائلهم وقبائلهم منذ الصغر ،
إنه تفكير بالحياة بطريقة مختلفة يكتسبه الطفل أو المراهق عبر أسرته (الشعرية) وهو معرفة للوجود من خلال تأثير أحد الوالدين أو من ترعرع بينهم وهم في مقام والديه .
"قفي قدمي" ،
دعوة للتأمل والاحترام ، فالسير لا يأبه بالأماكن بل بالوجهة ، وحين يسير المرء وحيدًا من المحتمل جدًا أن يكلم المرء نفسه ، وهذا الحديث النفسي يعلو صوته مع قوة الهاجس والفكرة ، قد يصرخ المرء وحيدًا أو يؤنِّب نفسه ، وقد يغني ويحدو ، وقد يقول الشعر ، فـ "قفي قدمي" من هذا النوع الظرفي .
إذن هذا المطلع بالنص دفعنا للانتباه عبر هذا الحوار بين الذات والجسد ، بين الشاعر وقدمه ، وهو دافعية للإصغاء ومعرفة السبب : إن هذا المكان ، يغيبُ به المرء عن حسّهِ"
لاحظ أن الشاعر وثّق بقوله ذلك حالة التشظي التي جاءت بالنص بكلمة المطلع "قفي قدمي" ، لقد فقد الشاعر حسّه فخاطب قدمه ، وارتفع بشاعريته نحو وصف المكان الذي أثار به نزعة الشعر ، فالشعر هنا انطلق عن إغماء وغياب ، هي فعلا صورة خيالية لكنها مثار الشعر ، فالحس الطبيعي ليس الحس الشعري ، الشخص بأحاسيسه وحواسه المعتادة ليس الإنسان بعالمه الشعري ، فقوله "يغيب عن حسه" يقصد به الشخص الذي غاب عن وعيه لكنه للشاعر تحول من ذلك الشخص للإنسان الذي خاطب قدمه "قفي قدمي".
للحديث بقية بمقالة تفصيلية بالمجلة ،
ومن لديه تأمل وعزف منفرد فليتفضل ، فالهدف هو تعويد أذهاننا على الشعور العالي بالنص وقراءته بعمق والبحث عن مكامن الجمال فيه وما يحرك بنا اليقظة والانتباه
وهذا النص كاملًا وهو موزون على البحر المتقارب:
قفي قدمي ! إن هذا المكان
يغيبُ به المرء عن حسّهِرمالٌ وأنقاضُ صرحٍ هوت
أعاليه تبحثُ عن أُسهِأقلِّبُ طرفي به ذاهِلاً
وأسألُ يومي عن أمسِهأكانت تسيلُ عليه الحياةُ
وتغفو الجفونُ على أنسهِوتشدو البلابلُ في سعده
وتجري المقاديرُ في نحسهِأأستنطقُ الصخرَ عن ناحِتيه
وأستنهضُ الميتَ من رمسهِ ؟حوافر خيل الزمان المشت
تكاد تُحدِّثُ عن بؤسهِفما يرضع الشوكُ من صدرهِ
ولا ينعبُ البومُ في رأسهوتلك العناكبُ مذعورةٌ
تريدُ التفلُّتَ من حبسهِلقد تعبتْ منه كفُّ الدمار
وباتت تخاف أذى لمسهِهنا ينفض الوهمُ أشباحهُ
وينتحرُ الموتُ في يأسهِ