النفاق دعوةٌ للذبول ببطء ، ونداءٌ للفراغ ليتمادى
المنافق و المنافقة ، لا يعنيان سوى (الفراغ الكبير).
إن النفاق ، أي عدم التلقائية ، من أهم لغات التآكل الذاتي ، ومن أشد أصدقاء أعدائك ،
فالنفاق وكينونة الخوف واحدة ، أي أنه هرب مستمر لكنه على شكل إنكارٍ للذات وتلبّسٍ لقناع القبول ، قناع التسول للرضا الاجتماعي الحقير، باسم المحافظ عليها من الأذى والردى ، أي أنه في عينهم هو البقاء والوجود..
انظر حولك
انظر في الشاشات والطرقات،
إنه مع كل تلك المسرحيات بالرضا والسعادة إلا أن رائحة الموت تفوح من ابتساماتٍ مصطنعة وبرودٍ مزيّف.
تمعن جيدًا في وجه الإعلامي ، والواعظ ، والوزير ، وبقية من اعتادوا على أن لا يكونوا بتلقائيتهم ،
تمعن جيدًا،
هل تبصر التمثيل الممل ؟!
هل تشاهد المسلسل الدرامي نفسه في وجه كل إعلامي آخر ،واعظ آخر، وزير آخر، وكذلك البقية الأخرى؟
تتغير الأسماء وتظل القصص في وجه كل وظيفة واحدة
إنه النفاق، أي عدم التلقائية ، هو السبب الرئيسي لكون وجه الإعلامي (حركاته ملامحه) يشبه وجه الإعلامي الآخر ..
بل حتى حدة الصوت.
هل تشعر بمدى التشابه بين أصوات القائمين مثلًا على قناة إخبارية ، وكيف يحافظون على لكنة أو حدةٍ واحدة ، أي الالتزام بزي واحد للنفاق؟!!
إن هذا هو ما أقصده ، حتى بالنسبة للوعاظ والوزراء وغيرهم لكونهم ينسجون في وجووههم المسلسل الدرامي ذاته فيما بينهم، أي زي النفاق المتفق عليه،
إذن النفاق قد يتحول من حالة هروب من الذات ، لحالة اعتداء غاشم على الجماهير وانتقام كبير منها، أي كالثور الهائج لا يتوقف عن الهروب والاعتداء،
أو أنه إمعانٌ في إيذاء العطشى ، وتقديسٌ لمطاردة السراب ،
أو أنه محاولةٌ مجازيةٌ جريئةٌ لإبلاغنا باستحالة التلاقي بين السلطة والوضوح ..
أو أنه (لو استخدمنا المجهر) من الكائنات التي تتكاثر وتتغذى على أنسجة القيود ، وتصاب بكل أنواع العذاب والجنون في مشاهدة أو مجاورة الحرية ،
أي أن النفاق يفضل أن تبقى السيوف مستيقظةً على أعناق كل حركة ، لكي يستمر بيننا ، أي لكي يستمر أولئك الذين أدمنوه واعتادوه ممثلًا لهويتهم..
إنّ في تقييد الحركة دعوةً كبرى ، للذبول ببطء ، ونداءً للفراغ ليتمادى وإعلان عن سلطة الادعاء القاسية والمتمكنة في مجتمعاتنا ،
فالادعاء طاقة من النقص تؤزك لرفع الشعارات وتقديم نفسك على المنابر (الدينية، الإعلامية إلخ) وأنت فعليًا لا تمتلك الإنتاج أو القدرة على الإنتاج.
ما الذي يجعل الناثر يزعم الشعر وهو لا يستطيع أن يكتب الشعر العربي ويبذل جهدًا للخلط بين المصطلحات ليكون (شاعرًا) ؟
إنه الادعاء ..⚡
ما الذي يجعل الواعظ يتدخل في مختلف الشؤون ويحاول أن يقدم نفسه مقياسًا ومحكّمًا على العلوم والسلوك والمجتمع ؟
إنه الادعاء .. ⚡
ما الدافع القوي للمعالج الشعبي ، وتقديمه نفسه طبيبًا لكافة أنواع الأمراض ، وشعوره بإمكانياته الخارقة التي عجز عنها الطب ؟!
إنه الادعاء .. ⚡
من وراء الكاتب الصحفي العربي، وكتاباته الفذلكية عن الحياة والناس ، وشعوره بأنه محور الكون أو على الأقل جزء من محور الكون؟!
إنه الادعاء .. ⚡
لماذا ، حين الظرف القاسي ، أو التحدي الصعب ، أو خلال ما يتطلب الجهد الجهيد ،
يخفتُ الصوت الجهور ، وتتلاشى الأنا ، وتضمحل الدعاية؟
لأن الادعاء فراغ لا يمكننا الاعتماد عليه ، وخيال لا يعرف الصدق ، وشعوذة يطلقها اللصوص للسرقة أو وعود يعلنها الانتهازيون للغدر بالأبرياء..
وهو ليس سلوكًا فرديًا ، بل هو أكثر من ذلك بكثير.
إنه برمجية أو حقبة من البرمجيات والعادات العقلية والاجتماعية التي تدفع لكثرة المدعين
وتعزز خصلة مهمة من خصال العرب مثلًا في مجتمعاتهم :
الدعايات الكثيفة ، والفراغ الكبير ،
فانظر كيف
هي حالنا حين أثمر النفاق ثمرته الفريدة المؤذية التي مازلنا نعاني منها ، أي الادعاء وجبروته في البقاء على حساب بقائنا نحن .
عصام مطير البلوي
مقالة نقدية اجتماعية
الرسمة الملحقة للرسام الأمريكي GASSER Henry Martin تـ1981م واسمها Light and Shadow