نصوصيوميات

ابن عربي في يوم عابر..

ما لا يسعني قوله لا يحقق وجوده في نصوصي، وما سأزعمه فيما أقوله رهين باعتبار اللغة والمعنى والدلالات الممكنة، وبقدر ما يكبر النص يزداد الاشتراط.

مصادفةً قرأت قصيدةً لابن عربي اليوم، فقلتُ في نفسي سأشرّحها وأشرحها كأنّي ابن عربي نفسه حين يفهم النصوص الدينية بطريقته الغريبة تلك التي أوجدت وحدة الوجود واتحاده، في فتوحاته المكية وبقية كتبه بعد أن واجهت حقيقة أنها في سياق الشعر العربي قديما ولم تأت بقفزات تليق بما نعرفه عن ابن عربي في شطحاته وقفزاته.

لقد كان مطلع القصيدة شيقًا وأثار اهتمامي حينها لأنه يعاني من خطأ بالوزن على البحر الرمَل في عَروضه التي جاءت ”فاعلاتن“ بالمطلع والقصيدة بالأساس مبنية على عروض (فاعلن) والضرب (فاعلاتْ) والروي (الميم) لا الهمزة، فيقول ابن عربي:


أَنجَدَ الشَوقُ وَأَتهَمَ العَزاءُ
فَأَنا ما بَينَ نَجدٍ وَتِهامْ
،
وَهُما ضِدّانِ لَن يَجتَمِعا
فَشَتاتي ما لَهُ الدَهرَ نِظامْ


ولا يصح بصدر البيت الأول إلا أن تأتي (العزاء) مقصورةً لتصبح (العزا) حينها سيستقيم الوزن حيث الزحاف الذي مسً الحشو (فاعلاتن) هو زحاف الشكل (حذف الثاني والسابع الساكن) لتصبح فَعِلاتُ، وهو ما يتوافق مع التقطيع العروضي السليم :

أَنجَدَ الشَوقُ وَأَتهَمَ العَزا=

أنْجدَشْشَوْ— قُوَأَتْهَ—مَلْعَزا

فاعلاتن—-فعلاتُ—فاعلن

قلت بعدها :“عادةً ما يكون هذا الخطأ من التدوين ونقلَة الكتب وتحقيقها“ ثم قلت بنفسي أيضًا ”دعني أمرر النص أمام مرأى شاعريتي وتحليلاتي كاملًا، ولا مانع حقيقة أن أعيش شطحات الصوفية“، لقد كنتُ مستعدًّا أن أقرأ نصًّا مفعما بالخروج الكبير على الواقع الشعري فضلا على الواقع الحياتي.
تقدمتُ إلى النص بصولجان وكرنفال المتشوق للجنون والقفزات من سياق إلى السياق،
أخذتُ شربةً من وقت وقرأتُ القصيدة دفعةً واحدةً فما مسّني إلا (قيس بن الملوح) والنسق العربي القديم في ذكر الشوق والفراق، وكيف هي الحال والمآل ولم أجد ما كنت آتوقعه أُفُقًا لشطحة كبيرة تليق بابن عربي الذي نعرف.
قلتُ ” كلا كيف يصبح ابن عربي شاعر غزل يحكي لنا ما نسمعه من شعراء العرب عادةً”، إنه لا حل لمعضلة مثل هذه إلا أن أعيش تفكير ابن عربي في شطحاته وأساليبه لأحلله بطريقته الصوفية نفسها، لا يمكن أن يكون هذا النص مجرد دموع وزفرات على فراقِ مَن لم ينلها الشاعر، 

إذن :
أَنجَدَ الشَوقُ وَأَتهَمَ العَزاءُ
فَأَنا ما بَينَ نَجدٍ وَتِهامْ
،
وَهُما ضِدّانِ لَن يَجتَمِعا
فَشَتاتي ما لَهُ الدَهرَ نِظامْ

قلتُ ”أنجدَ“ أي ارتفع (لا اتجه لنجد) و “أتهمَ” أي انحدر لا (اتجه لتهامة) وأنا ما بين نجد وتهام، أي في حضرة الأحوال لا (على مكة/الحجاز) ، فأنجد أي صعد لعالم الروح، أي الفقد الذي عناه بقوله (الشوق) فالفقد هو سكرة العاشق الصوفي، وأنجد أي بلغ السماء عالم الروح إذن ، 
وأما ”أتهمَ“ فيعني به الانحدار لعالم الظاهر، أي للناسوت و”العزا” هنا هو النَّيل فهو حين وعى بالفقد أدرك النيل، ولم يقل “الوجود” للأرضي تأدبًا مع الحضرة فالعزاء كتفريج كربة سيشير لقلة بالكاد تنفع (هكذا قلت بنفسي وأنا أعيش شطحات التحليل الصوفي)
 وهما أي الفقد والنَّيل، ضدان، أي يظهران جمالهما معًًا وشتاتي أي وجودي في حضرة الأحوال، بناءً على قوله بين ”نجد وتهام“ أي بين السماء والأرض، شتاتي إذن (أي إدراكي للعالم العلوي وإدراكي للعالم السفلي) وهيامي بين الأحوال تلك يفوق الانتظام كما يُنظم اللؤلؤ بخيط والدهر اسم زمان، جاءت ”نظام“ هنا ليبدأ التشكك عندي أيضا فقد برز هنا “الدهر” وإن كان بمظهر زمني بالنص أي للأبد، لكن الدهر كله في حضرة الصوفي هو مواجهة ثم ما تعنيه هذه الكلمة “نظام” في السياق؟ ما الذي يراه ابن عربي نظاما لشتاته ولا يستطيعه أبدًا أو محال وجوده له؟

أكملت هرطقتي بالربط بين ما أتخيله وما لا يقوله النص واضعا كلمة ”نظام“ في ذهني، هل يعني بها أنه بمرحلة لا تقر بوجود مخلوق؟ أو أنه يعني بأنه لا يلتزم بالشرع ظاهرا لأنه بحضرة المقدس (ما له الدهر نظام) أي أنه فوق الظاهر ودون الباطن وبالتالي فهو في وجود لا يحويه الدهر ثم تمعنت بنظام أكثر، فزادت حيرتي
فناديت روح الشعر، صديقي وهو بسياق الصوفية ”روح تتجلى بالأفق ومعنى يخطر في الوجدان،“ فسألته:

 يا إمام ما رأيك بابن عربي 
فقال :

يا لعنك الله ثم سمعته هاتفًا بأبيات عمر بن أبي ربيعة :

أَيُّها المُنكِحُ الثُرَيّا سُهَيلاً

عَمرَكَ اللَهَ كَيفَ يَلتَقِيانِ
،
هِيَ شامِيَّةٌ إِذا ما اِستَقَلَّت

وَسُهيلٌ إِذا اِستَقَلَّ يَمانِ

فأخذت على نفسي إلا أن أردَّ عليه بشرح ما قاله ابن عربي في قصيدته وأكملت تمعُّني وتأمُّلاتي وإن كنتُ أرى هذا التهاوي الكبير فيما يزعمه ابن عربي في معتقده فكتبت من التأويلات ما يجعل المحال ممكنًا محتذيا بطريقته فمثلا حين قال :


زَفَراتٌ قَد تَعالَت صُعَّداً
وَدُموعٌ فَوقَ خَدَّيَّ سِجام

قلتُ لابد أن تكون الزفرات أي عالم الروح، الصعود إلى الأعلى، إنه السمو الذي رمز به ب”أنجَد الشوقُ”، أي ارتفع وسما، والزفرات هي مزيج بين الروح والشعور والتعالي هو الخلاص من الجسدي والمادي والظاهر والعالم الفاني إلى العلوي والروحي والسماوي والخالد، وأما “الدموع” في نصه (ودموع فوق خدي سجام” هي العالم السفلي إنها الأجساد، وانفعال الظاهر عبر هذا الذي ينحدر للأسفل، إنه الصراع بين الحقيقة وعالم الباطل، لله درك يا ابن عربي، 

وأما قوله:

ما حَياتي بَعدَهُم إِلّا الفَنا
فَعَلَيها وَعَلى الصَبرِ سَلام

فقلتُ “بعدهم” أي بوجودهم، فهناك حياة قبل معرفتهم وحياة بعد معرفتهم أي بوجودهم و”الفنا” ليس الاندثار بل الوجود، السعة وهو غاية العاشق  وقوله “حياتي” أي انتباهي وبلوغي الحقيقة وقوله ”فعليها وعلى الصبر سلام“ 
أي تحقق المقصود في نيل المفقود، (هكذا سولت لي نفسي).

ثم قلت سأبحث عن النص الان بكتبه فوجدت ان النص فعلا له بديوانه ترجمان الأشواق1 وهو كاملًا :


أَنجَدَ الشَوقُ وَأَتهَمَ العَزاءُ
فَأَنا ما بَينَ نَجدٍ وَتِهامْ
،
وَهُما ضِدّانِ لَن يَجتَمِعا
فَشَتاتي ما لَهُ الدَهرَ نِظامْ
،
ما صَنيعي ما اِحتِيالي دُلَّني
يا عَذولي لا تَرُعني بِالمَلام
،
زَفَراتٌ قَد تَعالَت صُعَّداً
وَدُموعٌ فَوقَ خَدَّيَّ سِجام
،
حَنَّتِ العيسُ إِلى أَوطانِها
مِن وَجى السَيرِ حَنينَ المُستَهام
،
ما حَياتي بَعدَهُم إِلّا الفَنا
فَعَلَيها وَعَلى الصَبرِ سَلام






وقد حاول ان يجعله رمزيًا بادعائه قائلا:

“فكلّ اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أُكنّي، وكل دارٍ أندبها فدارها أعني، ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزّلات الروحانية، والمناسبات العلوية، جرياً على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى(3)، ولعلمها، رضي اللّٰه عنها، بما إليه أُشير (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرِ) [فاطر: 14] والله يعصم قارىء هذا الديوان من سبق خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبيَّة، والهمم العليّة، المتعلقة بالأمور السماوية، آمين بعزة مَن لا ربّ غيره (وَٱللَّهُ يَقُولُ الْحَق وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)“

ابن عربي، عن قصائده متحدثا في ترجمان الأشواق2

والحقيقة ان ما أبهرني أنه كان يتغزل بامرأة اسمها ” نظام“ – اللفظ الذي حيرني معناه في السياق- ثم وصفها وكأنها إنسان اكتمل أركانه ونما فيه كل إيمان وسؤدد، وبعيدًا عما قاله فيها ومحاولاته التخلص من الناسوت بالنص الى اللاهوت بالمعنى،
فإن النص غزليٌّ بامتياز ومن جيد الشعر لو أجريناه في نسق الشعر
لا المتخيل الصوفي حيث التلاعب بالمعاني خارج سياقها ممكن بادعاء شطحات يمنةً ويسارًا لربط المعاني التي نرفعها اعتقادًا بالمعاني التي نكتبها شعورًا وهنا الفرق بين الشعر والعقيدة
 إذ أنَّ الشعر يكشف ما بنا أما العقيدة فتقودنا،

وهنا اتضح أنني حين كنتُ أعيش لحظة تحليلية مهرطقة واعيًا بالخلط الكبير فيها، أقدِّمُ لنفسي معرفةً كبرى حول ذاك الذي يعيشها صادقًا معتقدًا بها، حيث تقود الاعتقادات التأويل/الفهم/والتاثر الشعري لمنع الاضطراب والتضاد بين الشاعر والصوفي، بين الشعر والزهد الشاطح
 لذا فادعاء شروحات الصوفية لشعر ابن عربي وكما يقول عنها أيضًا، هو فعلا كما قال ”روح الشعر“ – أو شيطاني بلغة العرب- :
ضربٌ من ”نكاح الثريا بسهيل“،
بتوظيفٍ يختلف طبعًا عمّا كان يعنيه عمر بن ابي ربيعة في استغرابه من تزويج امرأة أحببها اسمها “الثريا” بشخص يدعى ”سهيل“،
ونحن هنا نستغرب من نكاح معاني لا علاقة لها بما يقوله نص ابن عربي فعليا،
وبالطبع ليس روح الشعر هنا إلا بعض أناي في حضرة المعنى.

0 0 الأصوات
تقييم الأعضاء
1 ابن عربي، محيي الدين محمد بن علي. ترجمان الأشواق. تحقيق واعتناء: عبد الرحمن المصطاوي. بيروت: دار المعرفة، الطبعة الأولى، 2005، ص 44.
2 نفسه ص ٢٤.

مقالات ذات صلة

الاشتراك
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
الأقدم
الأحدث الأكثر تصويت
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض