كَأَنَّكَ مَخلوقٌ بِغَيرِ فَمِ..

إن الشعر في أبسط ظهور له يدل على الروح والحياة، إنه تفكير لا تفعله بقية الكائنات، وإذا كانت اللغة بالأساس هي تميز فريد للإنسان فإن الشعر هو أعظم درجات التميز، لأنه يبرز الإبداعي دومًا في تفكير البشر، وبناءً عليه فالإنسان هو الشعر هويّةً بمعناه الجذاب للجميع مقارنة ببقية الوجود المخلوق، وهو المعنى المشترك العميق للبشرية حيث أن الإنسان الذي نعنيه بمصطلحنا وسياقنا هذا هو نقطة مشتركة عند أي فرد بالعالم، وبأي زمان مع أي فرد آخر، وهو ضمان بقاء الأدب أبد الدهر، لأنه خالد في تكويننا النفسي مقارنةً بالشخص الذي يمثل الظرف المؤقت، والجزء الذي يخصنا بالصراع والعدوان،
فالشخص صراع بيني وبين العالم، إنه يمثل المجتمع، وجانبه الشعري بالنص ، هو جانب معرفتي بحدود اللغة والقدرة والمعرفة، لذلك فهو شاعرية ضد شاعرية، حيث يلتقي مع الإنسان العميق في صراع آخر.
للمعري بيتان من الشعر ، يحكي لنا بهما ، بشاعة العالم :
أَطرِق كأنّكَ في الدُنيا بِلا نظرٍ
واصمت كَأَنَّكَ مَخلوقٌ بِغَيرِ فَمِ
،
وَإِن هَمَمتَ بِمينٍ فَاِتَّخِذ لُفَماً
مُضاعَفاتٍ لِتَثني اللَفظَ بِاللُفَمِ1
يتبادر في البداية لأذهاننا أن المعري يخاطب شخصا آخر والحقيقة أن هذا النوع من الشعر، الذي لا يوجد فيه سياق قصصي يشير الشاعر به لغيره، تكون فيه المخاطبة موجهة للذات قبل الآخر.
شعر المعري به شيء من معرفة حقيقة المجتمع أمام الفرد، فالمجتمع هو شر، والفرد في ذاته (الإنسان) خيّر إلى أن يُبنى عليه الشخص الذي هو الفرد بالمجتمع، فالشر الذي يحدثه الفرد في حياته إنما جاء من المجتمع، وأما الخير فهو بالإنسان المشترك بين الأشخاص، ذلك المقموع بالأعماق والمترابط في الذات البشرية التي تجمعنا،
إن الخير الذي نتحدث عنه بحياتنا عموما ، هو خيران :
خير للشخص (الفرد بالمجتمع) ؛ ، وهو سريع الانقضاء ، ظاهر المعالم ، محدود الفائدة ، يصب بالنهاية في الشرور
وخير للإنسان (الفرد في ذاته) وهذا باق ، لا يتحول ، ولا ينضب ، باطن المعنى ، عظيم الأثر ، يصب في خلود الذات ، وبقاء العالم .
▪️ثنائية الشخص والإنسان في الشعر، سبق وشرحتها بعدة أمثلة من الشعر، وهنا بهذين البيتين ، يتضح أن الإنسان القابع بالنص هو من اتجه للشخص الظاهر:
فعل الأمر “أطرق”، “”اصمت” ، “فاتخذ”
جميعها يمثل صوت الإنسان (يُطلق عليه عند بعضهم الندم، الحذر، الأنا العليا لكنه يشمل غير ذلك إلخ) الذي وجه نصحه للشخص الذي يعلوه، وهذا نوع من الانكشاف بالعلاقة النفسية بين ذاتك (الإنسان )، وهويتك (الشخص) …
▪️المين هو الزور والكذب، والشعرية بالنص في هذه الحدية الشديدة في التعامل مع الحياة ، (بأن يتخلى المرء عن النظر والحديث )، والبيت الثاني قوته في تضمين اتهامه للكلمة بكونها زورًا، فظاهر البيت أنه ينصح بالتقوى والابتعاد عن قول الزور، لكن سياق النص يحمل أيضًا إمكانية أنه يقصد بالزور كل الكلام، وهذا من باب المبالغة والتأكيد على معنى البيت الأول وتعليله أيضًا.
بالنسبة للفظ لُفَم (جمع)، جاء من اللفام أي اللثام الذي يصل لأرنبة الأنف ، (على حد معرفتي )، أو لفمة وهي بمعنى لثمة.
البيتان يمثلان نتفة بالشعر على البحر البسيط، من ديوان المعري اللزوميات، الذي كان معظمه أتى على شاكلة الخطاب السابق، بالكثير من الآراء الخاصة بالمعري، كذم الدنيا، والخمر،والناس، والنقد العميق لسلوكيات وأفكار مختلفة، وبتشاؤم فريد من نوعه.
إن الحياة في عين المعري، خطرة جدا، وهي بذلك موجبة لليقظة التامة عبر التجاهل والصمت والعزلة، هكذا أراد أن يرينا المعري الإنسان العميق مقابل الشخص.
عصام مطير