عن الأمومة بصفتها “أنتِ”..

بعد كل القصائد التي يلقيها الربيع وتغنيها الأعشاب ..إلى خالدة في لغتي.
يرى سقراط فيما اشتهر عنه، أن الدهشة هي أول بواعث الفلسفة، وجدير بي أن أضيف على قوله: وهي بداية أي حب عميق.
إن ما يدهشني فيك، أنك أنثى في عصرٍ تحطّم الحضارة فكرة الأنوثة وتلتهم الروحي جدًا وتأصِّلُ الآليةَ وتقتلُ العاطفة فأنوثتك التي تفوق العمران والمدن مازال الشعر يتقاطر منها، فها أنذا أشعر بالإلهام الذي أنت نهره ومنبعه، وتلك الأمومة الفائقة حتى بيومياتك، وذلك الاهتمام الوديع بمشاركتي إياها، وموقفك ومعنى الحياة لديك ومنك.
إن هذا الحس العالي بالجمال لا يمكن أن يكون من تربية المدن، فالمدينة ضد الوعي بالطبيعة والرغبة، بل هي سبب البرود والكآبة، لكنكِ مع كل هذا التحدي الذي تواجهك به المدينة بالإسمنت والحديد، تتفوقين عليها بشعورك الفائق بالجمال وسعيك نحوه وكذلك بجمالك ذاته الوجودي المتأصل فيك، عينيك، ابتسامتك، عطرك الذي أشمه بنظرتي نحوك، حيويتك، صوتك، مواضيعك، عقلك، اهتمامك، نظرتك للمستقبل، آلامك التي تخفينها، توهجك للمستقبل، إدراكك للنفس، للشعر، للسحر، ورغبتك بالحب التي تجيدين بصفتك أنثى أن لا تبوحي بها.
إنك أنوثة بمعنى أعمق من المظهر، هذا التكوين الوجودي الملازم للشعر، حيث كل قصيدة هي إصغاء، إصغاء للذاكرة والتطلع للمزيد، لكنك أعظم من هذا التفسير حيث أنك بالإضافة إليه نداء للمزيد بإصغاءٍ يصطفي الأفضل، إنه سرك الذي تتفوقين فيه على أي قصيدة، فالشعر لا يبحث عن الأفضل بل عن أي شيء قابل للخلاص وكفى أما أنتِ فلك بأنوثتك ما يجعل الحياة خيارًا أهم، وببعض ما لدى الروح من قدراتٍ مذهلةٍ تعرفين ما هو الأفضل من أجل الحياة.
إنك أنوثة أيضًا تجدد فكرة الذكاء، فمن خلال تأملي لك، أجد ثنائية أن تكون ذكيًا وأن يلزمك كذلك أن تكون منجذبًا للذكاء في العالم، الأولى عقلية منتجة لكنها أنانية إذا جاءت وحدها فقط وأما الثانية فهي روحية نفسية بنّاءة تشبه اتجاه الأغصان ونموها نحو ضوء الشمس، أن تحب وتعجب وتميل للذكاء كل ذاك يؤكد تفوقك على الذكاء ذاته بكونك كالحياة تجود دوما بالشعور المتدفق وما هذا إلا لأن أنوثتك أمومة كبرى.
بإحدى رسائل الفيلسوف الألماني هيدجر للفيلسوفة حنّا أرندت ، كان قد استعان بمقولة “كل جمال يكون ناقصًا ، إن لم يجد من يمتدحه” وأنا هنا إذ أرى جمالك تعيقني لغتي عن التعبير الذي يستحقه.
إن أبسط التعريفات للجمال هو ذلك الذي تنظر إليه فيسرّك رؤيته، وهذا التعريف الحسي مرتبط بالنظر، وأراه قاصرًا حين الحديث عنك وانبعاث ما ينبغي قوله عن جمالك، فليس الموضوع مرتبطا فقط بالسرور من هذا الابتسام الأخّاذ وهذا الوجه المكتظ بالسحاب والسماء فقط، بل أيضًا طمأنينة الثقة بالحياة، وأن الأنوثة لم تنقرض في هذا العصر.
نعود للأم التي لا يمكن وصفها إلا بمانحة الحياة، وقد جاء أهم مظهر لها في عالم الكون بملكة النحل التي كان وجودها هو بقاء لوجود ظاهرة النحل في هذا العالم، وكيف أن الذكور تموت نحوها وأما هي فتبقى ليبقى النوع والوجود، وهي بذلك تشير من بعيد لمفهوم الأمومة والسلطة المسؤولة، في حين ينتهي ماعداها في لذة بلا تاريخ،
وحين النظر في عالم الإنسان، وصل العلم إلى خلاصة أن الDNA الخاص بالميتوكندريا يأتي من الأم فقط، والميتوكندريا هي المسؤولة عن إنتاج الطاقة للخلية، وأما بقية ما بالخلية فهو مشاركة بين جينات الأبوين (على حد علمي) وبهذا فإننا حتى على مستوى الخلية نبصر الأم، وإن كنا أيضا لا نهمل الأب فيها، وحتى على مستوى الوعي الاجتماعي، فلا شك أن الأمومة متقدمة على الأبوة.
هذه الأمومة التي هي أعلى مستويات الحياة كما يتضح لي، لم تبتعدي عنها، وهي تجري بك في طور أكبر من أمومة الأبناء فقط، إذ أنني أبصر أمومتك باهتمامك في عائلتك المحيطة، وبانفعالاتك، وبغضبك، وبرضاك، وبتطلعك للحياة، وبسؤالك عني.
لقد تأملت في خضم قراءاتي وتجاربي مفهوم القوة عند الإنسان، ولم يكن ذاك باعثه سوى سعيي نحو الحرية بما أنها مقدرة، وحينئذ قد بدا لي أن الشعور بالقوة ليس هو ذاته الفعل خصوصا أن الأول قد يكون تصورا والأخير يعكس شعورا آدق، ومع ذلك فإن كليهما يمثلان أن الوعي بالقوة لابد أن يحمل مفهوما ومعرفة ما، وأنه ليس مثل الشعور بالشبع أو الجوع فهذا فسيولوجي/جسدي بحت، في حين الشعور بالقوة مرتبط بتقدير نفسي معرفي، حيث تقوم الأفكار والثقافة والطباع التي ننتمي لها، بتوجيه أذهاننا لمعنى القوة الخاص لدينا وربطه بأحاسيس النشوة.
لذا، قد يكون شعوري بالقوة جاء من وهم محض، وقد يكون حقيقيا، وهنا يأتي دور العقل التحليلي في إرجاع وعينا للقوة لجذوره، من حيث: ماذا علي أن أفهم من كلمة قوة ؟ هل هي أن أكون عصيا على الانكسار ( لدي مقاومة عالية ضد هزيمة قدراتي ) أم هي بكوني قادرًا على تحقيق ما أريد ( لدي أدوات متعددة لنيل ما أطمح له) أم أنها الاثنان معا : مقاومة عالية، ونيل مؤكد ؟ ثم بعد هذا نأتي لنوع القوة ، فكل فرد منا له توجه وحياة يعيشها، له صراعاته، ورغباته، وقد تكون الأهداف مختلفة لكن الغايات النهائية واحدة : الشعور بالقوة.
يلعب كرةَ القدم لاعبٌ ماهر يشعر بمهاراته بقوة عالية ، (هنا الشعور بالقوة مرتبط في مجال اللعب، الذي سيؤدي بدوره لشعور بقوة في عالم المال وهكذا)؟، ويحقق تاجر الأسهم أرباحا هذا اليوم أشعرته بقوته في هذا المجال ، (ربما سيخسر غدا لكنه يشعر على كل حال بقوته الآن)، وقد يعتقد التاجر الشهير أنه الأقوى بماله لكن علينا النظر بأن الشعور بالقوة ضيق الأفق، فلابد من أن يزاحمه الشعور بالضعف في مجالات أخرى، والإنسان بوعي يعمل على استيعاب محالات حياتية متشابكة ومعقدة، لذا لا يمكن محاكمة الحياة من حيث مقياس الامتلاك فالحياة أكبر من جسد فما بالك بممتلكات خارجه وهنا تجذر وتضخم السؤال الأكبر في هذ السياق
ما هو الشعور بالقوة في أوضح معالمه وأعلى مستوياته وأصدق مظاهره؟
إنه بلا تردد: الأمومة . إذ أن العطاء النابع من ذاتها يتدفق بلا انقطاع والعطاء دوما لا يكون إلا من رصيد سابق، ولا يمكن أن تكون كل ثروات العالم وجيوشها متفوقة على “الأم” لذا فإنها حين تعطي، تدرك قوتها السامية. ومن الأمومة كان الكرم والحب والنخوة والشعر، يتنافسون في مضمار المعاني الرديفة..
إن ما يثير الدهشة لابد أن يكون غريبًا على العالم، وهو بهذا المعنى قد يلامسه الخوف والهرب، لكنه بهذا اللحظة بالذات لا يعانقه إلا الشعور الجمالي وأن معاناة الشعر بهذا العصر من الممكن جدا أن تزول فأنثى تحمل كل ما بالجمال من غايات بهذه الأمومة الكاملة، تتحطم في عينيها كل معاناة نظنها لا تزول باستثناء أن يستيقظ الشعر فلا يجدها.
عصام مطير