الأبراج ونرجسية المقموع

اتخذ العقل مواقف متباينة من القدر وحرية الإنسان، فهناك ما يدفع نحو التفكير التأملي الإبداعي الذي يعتمد على واقع الحياة وما يمكن استعماله أو تفكيكه لصناعة حياة أفضل، وهناك ما وجّه نحو الاعتقاد بحتمية الواقع والتطلع لمعرفته والخضوع له، ومن الأشكال الجبرية التي يرى صاحبها حتمية التسيير هو التفكير السحري بأثر البرج على أقدار الشخص، وشخصيته، وكذلك استعمالها بالعرَافة والتخرصات، وقد كان الإنسان في زمانه القديم، أمام إشكاليات لا حصر لها في تفسير حياته، وما يأتيه من قدر، وما يمكن فهمه عن الآخرين وتوقع صدقهم أو زورهم، ونواياهم، وما لهم من أثر في مرضه وصحته، وكل ذلك من الممكن حصره بكلمة قلق الحياة، والسعي للسعادة، في حدود ضيقة من المعرفة، ثم إن الجانب الروحي حينها كان بأعلى درجاته فهذه الحواس والمشاعر قد نالت قوتها واستمدت طاقتها من الطبيعة ولعالم الوثنية دوره الكبير في السعي لذوات الأشياء والاستناد على ”الحدس“ والتخاطر لنيل المعلومة التي عادة ما تكون بأجزاء منها خاطئة، والبقية غالبا من الممكن أن يستشفه المرء بعقله، لكن جزءًا من غرائب الحياة باقٍ في خضم ذلك وهو عادةً ما يدفع لاستمرارية العرافة رغم كل أخطائها وقصورها.
العالم الروحي والنفسانية الشاملة.
كان طاليس أحد قدامى فلاسفة اليونان يعتقد أن المغناطيس يحمل روحا أو نفسا لأنه يحرك الحديد، وقد نقل أرسطو ما يعتقده مفكرو زمانه ومن سبقوه بأن العالم ممتزج بالنفس ولذلك رأى طاليس أن العالم مكتظ بالآلهة، وهذا الجذر الفلسفي اليوناني هو ما يصب بالفلسفة التي يطلق عليها اليوم بالنفسانية الشاملة1 والتي ترى أن لكل شيء وعي أو ما يشابه الوعي، لكن طاليس بالطبع كان يقصد بالنفس الحية مبدأ الحركة أو الفعل الذاتي على غير ما نعنيه بصفة الوعي بالعصر الحديث التي هي بنية داخلية أو أولية في المادة نفسها تمثل جوهر الشيء موازية للصفة الفيزياء التي تصف لنا الظاهر من المأة وعلاقاتها ، مثل عنصر الحديد يحمل صفة فيزيائية وأخرى ذهنية لكنها غير معلومة، وهكذا، فإن الوعي بهذا المعنى مجرد تصور ميتافيزيقي مفترض بالمادة من الممكن أن يفسر لنا فلسفيا ظاهرة الوعي عن الإنسان والكائنات الحية، لكن هذا الاتجاه ليس ما يزعمه الوثنيون مثلا بحياة الكواكب، أو أنها بأرواح إلهية أو تمتلك قدرة على التاثير على أقدار الناس أو تشكل شخصياتهم، فهذا الفكر الأخير يمثله الاتجاه الطوطمي والرمزي والذي يعني الإرادة الفاعلة أيضا في ذوات الأشياء وتأثيرها على البشر، وهو التفكير الوثني الذي رفضه الإسلام خصوصا بسياقه السني وكذلك اصطدم مع فلسفات العقل وعلوم النفس اليوم.
لماذا الأبراج ؟
البرج هو الزمن، وهو السماوي، وهو العلو، وهو الفلك في تكرار ذاته، وقد كان الإنسان القديم أشد وعيا بالروحانيات والأثر الروحي من الإنسان المعاصر بفعل التأمل اليومي التلقائي بالطبيعة مقارنة بابن المدينة حبيس الجدران والمطلوب منه يوميا أن يؤدي مهاما رقمية على شاشة مضيئة مزيفة تقتل رغبته أو شعوره بذوات الأشياء، لكن روحانية الإنسان القديم تلك لها ضلالاتها كما لرقمية الإنسان المعاصر من ضلالات واختزالات ظالمة،
وإذا كان الإنسان المعاصر يُظهر عذابه النفسي بالاضطرابات وتعاطي الأدوية، فإن الإنسان القديم وهو بالطبع أقل عرضة لما نعانيه كان يصرّف هذه الضغوط بالمعتقدات، ومنها أثر البرج، وإذا كان الإنسان المعاصر قد تقدم في معرفة ذاته من خلال العلم، ففهم شخصية الفرد التي تتشكل من حيوية الجسد والثقافة والتربية والفكر والتجارب، فإن إنسان العصور القديمة قد وعى بذاته منعكسة على صفحة السماء، فاعتبر تنوع الشخصيات مع معرفته بكثير من صفاتها قد تشكلت بفعل روحي قامت به الأبراج التي استدل بها من خلال يوم ميلاد، ولكن مثل هذا التفكير لم يكن بكل الأمم القديمة، وغالبا أن فكرة الابراج وليدة الزمن الوثني للبابليين والكلدانيين، وقد كتب بطليموس السكندري في القرن الثاني قبل الميلاد بوصف العلوم الفلكية في كتاب مفصل عنوانه «تيترابيبلوس» Tetrabiblos.2حارب الإسلام مثل هذه الجهالات وبيّن أن علم الغيب المطلق بعلم الله عز وجل، وأن مثل هذه الجزئيات التي قد تحدث قابلة للفهم والاستشفاف عقلا أو أن ما يصدق منها قليل وبقية الكلام من الأكاذيب، مما يجعل هذه الرؤية قد سبقت العلم التجريبي الحديث بأن التنجيم من العلوم الزائفة ونسبة الصلة فيه لا تتجاوز نسبة توقعات الصدفة.
السحر القديم ..
معتقدات السحر القديم القادمة من الوثنية، كان لها دور في ربط العرافة بالأبراج، فالسحر نفسه يقدم ذاته بأنه علوي، ولذلك كان العراف كي يجد نفسه بالمجتمع لابد أن يكون ممتدًا من السماء ( الأبراج) على أن بعض العرافين يضربون الودَع (صدف البحر) ويقرؤون خطوط الكف، ولهم أساليب مختلفة لكن الأشد شرفا في مثل هذه الأوساط من يزعم ارتباطه بالأبراج، أن يعرف ميلادك وتوقيت ولادتك ليؤدي الأدوار الاستشارية، فالسماء خارطة القدر والرفعة أيضًا، إنها العلو الحتمي دومًا فوقك واستعارة الرفعة لم تكن إلا بتأثير السماء ذاتها، وهذا المنجّم هو الوسيط (الكاذب بالطبع) بين حياة الشخص وقوة السماء، ولكن دعونا ننظر إلى مستويات العمل الفلكي المزعوم :
١. قراءة الشخصية (وهو أمر ثانوي ) يهدف لجذب الزباين ومن ثم التاثير والاستغلال، غير أن لها أضرارًا حيث يعتقد بعض الحمقى بصحتها ويطبقون ما فيها بأخذ موقفًا من الآخر.
( الشخصية اليوم عُرِف أنها مجموعة عوامل تشمل الدور الوراثي الجسدي ، والصحة والمرض ، والثقافة والتربية ، والمكان والنمط إلخ ، وتجارب المرء الخاصة ، ونسبة الذكاء، وأن خليط عوامل وأنها كذلك غير ثابتة وقد يتغير المرء بشخصيته بناء على تغير حيويته، وأثر الدواء وأمور متنوعة. … …)
إن الشخصية بالماضي كانت مجهولة فيتم التنبؤ بها عبر البرج، ويا له من ضلال، بل هناك من يحاكم شخصا أو يتخذ موقفا منه عبر معرفة برجه، وهذا الذي يؤمن بالأبراج بالطبع سيفسر تصرفات الآخر عبر البرج ليريح نفسه من الشعور بالجهل أو حتى ليصل لقناعة أن لا يحاول تغييره ( لو كان مخطئا) لأنه لن يتغير، فهذا فعل البرج الذي ينتمي له ، وهكذا دواليك‼️
٢. التنبؤ بالطالع، وهذا يبحث عنه فاقدو الثقة بالحياة غالبا أولئك الذين وجدوا بالتطلع نحو المستقبل مشقة في التخطيط فركنوا نحو الخيال لكن هذه المرة ليس الأدب بل الكهانة وقد دفعهم ذلك نحو الانصهار بشخصية المجبور والمقموع بالقدر القادم لأن هذا الدور يناسب واقعه، فالسعي للغيب بهذه الطرق لا يخرج عن : مقموع ، جاهل بالحياة ، ومضطرب بقلق الوجود والخوف، وكذلك ضعف وسوء فهم المعتقد الإسلامي.
– تأخذ كلمات المنجّم اتجاهين في الإجابة، الأولى أنها قابلة للاستعمال والانطباق على كثير من الناس، والثانية خاصة مستشفة أما بخبرة عقلية أو بالتخاطر المباشر، وسيكون البرج أو الأرقام الميلادية مجرد محاكاة علمية لتأثير وجود شيء معرفي ولو كان كاذبا بالنقاش، إنه صنف من جاذبية الرياضيات !
٣. إيهام الزبون بالحظ، وأن النجوم والأبراج تخطط له مصيره، وهي مهتمة بتدبير أحواله. هذا الأسلوب قد يكون جذابًا للباحثين عن الشعور بالأهمية، علما بان هناك بعض دراسات تربط هذا الاتجاه بالايمان بالأبراج، فعلى سبيل المثال مقياس النرجسية (من ضمن أبعاد Dark Triad) كان أقوى متنبئ للإيمان بالأبراج3،
تأثير بارنوم ، والأبراج ..
المقصود “بظاهرة بارنوم”: أن المرء يجد في المعلومات والأوصاف العامة نفسه، ويحقق إيجاد المعنى حتى في المعلومات التي ليس لها تقريبا أي معنى.
“بارنوم” كان متعهد السيرك، الذي قال انه يمنح شيئًا صغيرا لكل فرد من الجمهور بعروضه، فظن كل شخص أنه مقصود بجزء معين، وصدقوه ..وهذا ما يحدث لقارئ برجك هذا الصباح أو حظك اليوم، فالجمل المكتوبة قابلة لتصديقها لأن كل شخص منا يستطيع جعلها خاصة به4.
نرجسية المقموع..
أن تكون حرًا ليس فقط أن تفعل وفق قدرتك، بل أيضًا أو بالأصح أساسًا أن تفعل من خلال شعورك النفسي وتخطيه العُقد النفسية والذكريات القامعة لتفكيرك، فالقمع الملعون في بيئة الألف ألف جهبذ وعبقري ومرشد، ومصلح وقدوة وناصح وناقد وبقية التراكيب يشكّل إعاقات عميقة لشعورك بالحياة والمقدرة بل أيضًا يعميك عن إمكانيات شعورية ممكنة، و“ذات“ المقموع قد تتعالى على جراحها من خلال التفكير السحري، وإن كان التاثير النفسي للأبراج يعني الحتمية لمعانيه لكن هناك سعي دوما للأمل من خلال التنجيم وهذا دور العراف عادة واستغلاله لهذا الشعور العليل، لكن أيضا قد يكون ذلك تماهيا مع حالة فقدان التوازن التي يعيشها المقموع أو المصدوم من واقعه وحياته مؤخرا لانخفاض القدرة الذهنية بفعل الصدمة أو المرض، وفي بعض الأحيان تكون امتدادا لثقافة ومعتقد هش أمام الأقدار الصعبة وحينها تكون الأبراج أيضا ضد التوحيد بمعناه الإسلامي، فالقلق الذي يدفع للسعي نحو الله اتخذ طريقا منحرفا، إنه السعي للبرج، وهذا السعي بالطبع سيزيد بالنهاية إشكاليات الفرد، برغم أن هناك شيئا من الراحة البادية في خضم ذلك لكنها الراحة التي تتسبب بالنهاية بإشكاليات الاعتقاد السحري وانخفاض التفكير المنطقي والهزيمة أمام الخوف من ذوات الأشياء.
السماء والقمع ..
تظل صفحة السماء ليلًا شبه ثابتةٍ ومتجمدة ، وقد منح المشهد الجليل لنجومٍ اهتمّت البشرية بمواقعها وظهورها واختفائها : أوهام العظمة، وأحلام المجتمعات المقهورة، ولا شك أن صفحة كهذه في ليال مدلهمة ستغدو تراثا كبيرا للخرافات والاعتقاد بتأثيراتها القدرية، ومن المعلوم جيدا أن المجتمعات المقهورة تتجه للقدري لتنسب لها ضعفها، بالإضافة للفعل السياسي الذي قادته الإمبراطوريات وبتاريخ العرب كانت هناك إشكالية الجبر والاختيار في المرحلة الأموية من أهم إشكاليات الحكم السياسي حين نظّر بعضهم حينها بأنهم قدر الله الحتمي، ومثل هذه الاتجاهات الفكرية في طريقة الحكم لم تكن حكرا على تلك الحقبة فقضية مثل الأبراج قد امتزجت بفكرة الآلهة اليونانية بعد غزو الاسكندر المقدوني الشرق، ويظهر أنه لا يمكننا الفصل بين المحتوى الخرافي للابراج ونٌظُم الحكم السياسي القديم وإن لم يكن لدينا أدلة على ذلك لكن العرافة بل السحر ذاته كان مرجعا للكثير من نظم الحكم القديم، فهناك سحرة فرعون على سبيل المثال، وهناك بالتاريخ العربي قصة ”فتح عمورية“ وقصيدة أبي تمام للمعتصم بالله حين انتصر بالسيف بعد أن حذره المنجمون بأنه سيخسر الحرب، ومثل هذا كثير في إثبات الضلالات الكثيرة التي يعتقدها المنجمون.:
السيف أصدق إنباءً من الكتبِ
في حده الحد بين الجد واللعبِأبو تمام
التعالي على اليأس..
من الطرق الجيدة في مواجهة التحديات الصعبة أو الصدمات المؤلمة: نداء الذات وتشجيعها بتعظيمها، فالمقموع ، يُعلي من صبره ويقاوم التشظي عبر “الأنا”، وقد يمارس حب الذات بأعلى درجاته لأنه مهدد بالأساس بالزوال، وهذا النوع من النرجسية التي تكون موجهة بعيدا عن القامع، هي نرجسية بريئة وعاجزة عن إنقاذ صاحبها لذلك يلتزم فيها بنداءات الذات وترداد ما يعزز شعوره بنفسه، وقد تسببت عليه بمضاعفة صراعاته بالخيال الروحي رغم كل مقاوماته العقلية وتمسكه بالمنطق والتفكير، ولعل تقنيات مثل الإسقاط ليست ذات نفع, وحينها فإن الطريق ممهدة للفكر الروحي الذي نعني به كل ما له علاقة بالوجود ومعانيه وارتباطاته وعلاقاته وما يشكله بالقدر الذي يعيشه الإنسان، وهذا يشمل كل الفكر الديني بكافة أشكاله وأنواعه، ومن بينها الأبراج وأثرها وما تقوله وهي بالذات تقدم وضعية سببية (منطق مزيف) إن قدرك بفعل يوم ولادتك ! ، وأنت تحت تأثير نجمك وهذه إرادة الفلك …
آلية التفسير والإغواء..
ما يمكّن التفكير السحري من الاستمرار هو محاذاته للمنطق، فهو ليس تماما بعيدا عن العقل والتجربة، بل هو قريب لكنه غير قابل للامتحان إلا بجهد، ولأن الأفكار المقدمة سهلة، وقابلة للتقمص، ومن السهل تقديمها بصفتها تخصصا مميزا بأن يكون المرء عالما فلكيا، فإن هذا الرونق يكفي لجاذبيتها، ولأن التفكير التحليلي مجهد ويحتاج دراية طبية والعمل الجسدي وتعقيدات علم الأعصاب، وكذلك العلوم المرتبطة بالعقل كعلوم النفس والمجتمع، فإن التفسير الكوكبي الفلكي أسرع بالانتشار لأن له وسائط داعمة، فالخوارق هي جزء من حياتنا اليومية، الحلم ذاته يحمل مادة سحرية قابلة لتكون تنبؤات حدسية، ومن هذا فإن ما يعرف بعلم الأبراج يمتد في شهرته من يومياتنا ومن تاريخ الخرافات البشرية، وكذلك من أثر العرافة التي تصدف بقليل منها، ولغياب المعرفة الحقيقية بالتنبؤات والتخاطر يكون للتنجيم وسطا مؤيدا لها وداعما، وبانخفاض القيمة الجوهرية للتوحيد الذي جاء به الإسلام، حيث هدفه تجريد الإنسان من الاعتقادات الوثنية ودفعه نحو عبادة الله، حيث يقع الإنسان في مواجهة القدر لا تحت حتميته، أقول وبهذا كله يكون للأبراج شهرتها مما يدفع للتمسك بها أيضا هو قابلية التفسير لأي حدث صعب، بل وإعادة تشكيل العلاقات اليومية بناء عليها.
مثال من الممكن أن نفهم الكثير منه :
حين أعتقد أنني تحت تأثير برج العذراء مثلا، وأن لها هذه الصفات وتلك الأمور المناقضة فإن إيماني القوي بتأثير الأبراج سيدفعني لتنميط نفسي للتقيد بتعاليم البرج نفسه، بل ويدفعني أيضًا للتقيد بما يجب فعله مع الأفراد الذين ينتمون للأبراج الأخرى !!
لحظة الميلاد والمستقبل …
تؤكد دراسات كثيرة في عالم الطب أن هناك عوامل متى ما وُجدت فإن ثمة أحداث مستقبلية ممكنة ومنها على سبيل المثال ظروف الجنين الغذائية والصحية ووزن المولود وما يتسبب لاحقا من قابليات للأمراض، أو ما يعرف باسم فرضية باركر5، وخلاصتها إن ظروف البيئة داخل الرحم (التغذية، الأكسجة، الإجهاد، البيئة الكيميائية…) تؤثر على نمو الأعضاء والتكوين الفسيولوجي، مما يُبرمج الجنين بطريقة تجعل بعض الأنسجة أكثر عرضة للأمراض لاحقًا في العمر.
تأتي هذه الملاحظات العلمية الدقيقة وبالدراسات الإحصائية لتؤكد إمكانية التنبؤ العلمي بحدود ما، لنطاق الحياة، ولا يوجد ما ّهو أهم من الصحة بالطبع وما تقوم به الأمراض من تحولات حياتية كبرى نحو الأسوأ في العلاقات الاجتماعية والإنجازات والتجارب، وهذا بالطبع كله من الممكن تقييمه بلحظة الميلاد أي تقييم المولود صحيا وما يمكن أيضا قبل ذلك من تحسين صحة الأم.6
تأخذ الشخصية وجودها من عوامل جسدية، مرتبطة بما مضى، وكذلك من حيوية الجسد وجيناته عموما، وهي أيضا قادمة من التجارب المعرفية والتربية والثقافة السائدة وعوامل كالطقس والمكان لها دورها كذلك، لكن القول بأن لحظة الميلاد المرتبطة ببرج معين لها قولها الحاسم فهو ما لا يمكن إثباته ويسهل علينا إثبات بطلانه:
لا تتشكل شخصية المرء منذ لحظة ميلاده، بل أن اللغة ذاتها لا يتعلمها إلا بعد شهور، وهنا يكون الوعي بالزمن والطقس على سبيل المثال لحظة الولادة ليس ذا أثر فولادة الطفل بفصل الشتاء أو الربيع لن يكون له أثره إلا من خلال المرض في حال الوباء، أما غير ذلك فلا لكون هذه الفصول سرعان ما تنقضي تباعا ومتتالية، والنمو للدماغ متاثر بالمحيط الثقافي والتغذية أكثر من ارتباط الفصل بأبراج معينة هذا لو افترضنا أننا هنا نبحث عن أثر مادي ملموس كالطقس وعلاقته بمواعيد البرج.
الروح والجسد..
ما يدفعني للتفكير بجذر الاعتقاد بالأبراج أنه قد يتجاوز هيبة السماء،هي معضلة الروح بمعناها الحي والواعي، أو ما يطلق عليه فلاسفة اليوم العقل مقابل الجسد، وهذه النظرة التي ترى الذات مختلفة عن الجسد، نظرة قديمة عند البشر، وهي أقدم بمراحل من أفلاطون وفلسفته، ولعل غرابة الحياة ذاتها دفعت للاعتقاد بعلوية النفس المرموز لها بالروح عن الجسد الممتد من الأرض، وهنا تكون لحظة الميلاد هي لحظة الهبوط والدونية للعنصر السماوي، وفق ما يظنه الوثنيون قديما وهو بالطبع يختلف عن إرث النبوة الذي نظر لآدم بأنه ابن الطين، ثم إن علينا النظر بأن ثنائية ديكارت نفسها تشير لعالمين منفصلين من الوجود، عالم العقل وعالم الجسد، ولعل مثل هذه الأفكار كانت بالأساس امتدادا لمنطق قديم يعتقد بأن الروح الواعية أي الذات العاقلة لها وجود سابق كما يظن المعتقدون بتناسخ الأرواح تلك الفكرة الوثنية الضحلة، لكن ما الأبراج حينها؟
إنها مظهر من مظاهر الاعتقاد بالانفصال بين العقل والجسد كذلك، لكنها أخطر إذ ترى أن المرء تحت تاثير البرج وحظه ونحسه مرتبط بإرادة أخرى لأنها أعني الروح سماوية هي كذلك !
الخيال البريء
تأخذنا الحياة لمزيد من الغرابات، فالواقع له سياقاته التي لا تخضع لإرادة المرء لذلك تتسلل خيالاتنا البريئة لتلطف المشهد العام، وقد انبثق الشعر بمظهر من مظاهر وجوده بصفته تلطيفا لصعوبة الحياة، ومن خلال اللغة أخذ الشاعر التعبير عن أعظم طقوس الجنون بالتفكير، فالصور الشعرية لا يصح عليها خارج سياق القصيد سوى أنها جنون مبرر، لأنه لا يتجاوز اللغة وله هدف قد تحقق بالتعبير غير المباشر عن معاني شعورية، ولا تخلو ”الأبراج“ وفكرتها من هذا الجنون لكن ليس بالكلمات، بل بالتفسير، فالشعر من سياقات اللغة، في حين التفسير من سياقات التفكير، وهنا تكون الأبراج تعبيرات غير مباشرة عن معرفة ذاتية لكنها ليست تعبيرية بل حدسية، ويشترك الشاعر والمنجم بالإصغاء للذات، فالشاعر يزعم أن الإلهام يتيح له الصورة الخيالية باللغة، في حين العراف يصغي للانعكاس الذي يعتقده ويسمع لما يخطر في ذهنه بحجة البرج ولا برج ! فالأمر ذاتي هو أيضا.
عصام مطير