قراءاتقراءات أدبية

أحاذر عالمي وأخاف مني – المعري

يبدو لي ، بأن ما نطلق عليه خوفًا ، هو انتباهنا الدائم للحياة لكنه أحيانًا يختبئ في بينيات أي لذة نعانقها ونظنها جاءت نقيةً وخاليةً منه 

حين قال المعري :

✨أحاذرُ عالمي وأخافُ منّي ✨

كان في قمة حيويته ووعيه ، فالشعور العالي بالخوف يحتاج أيضًا حيوية كبرى ، ولا يلزم الخوف ذاته أن يكون مرتبطًا بمرض أو حتى انخفاض الحيوية وإن كانت المخاوف قد تظهر بمثل تلك الأوضاع.

▪️يقدم لنا الشعر دليلًا مبدئيًا على أن العقل المنطقي واللغة الشعبية لا يصلحان لتمثيل الوعي الخاص ، ولهذا نجد أن أدق الاعترافات الشخصية لا يستطيع غير الشعر حملها 

▪️حتى فكرة توظيف الصور الخيالية بالنصوص ، هي معنى من معاني الملْكية المطلقة والثراء غير المهدد بالثبور ، فالصورة التي تأتي بها خيالاتنا هي وحدها مالنا الذي لا يشاركنا به أحد وقيمته تظل ثابتة لأنها هويتنا .

وُلِد المعري عام ٣٦٣ هـ ، وقد فقد نظره مبكرًا لكنه برع باللغة وعلومها والشعر وفنونه ، وفضّل العزلة مبكرًا في حياته وزهد عن أكل اللحوم ، وألف مؤلفات عدة بعضها لم يصلنا ، وفي ديوانه اللزوميات ، اخترنا هذا النص الذي يصف به حاله ، ويقول فيه :

وإذا تأملنا أبيات المعري السابقة الموزونة على البحر الوافر ، لوجدناه يشير إلى ثراء نفسي ضخم دفع صاحبه للخوف العظيم والتعبير عنه  ، برغم عماه وقوله بالبيت الذي سبقه”

ألم تر أنني حي كميت 
أداري الوقت أو ميت كحي”

بقراءة أولية سنجد أنه يبيّن لنا هذا الوضع المزري (حي كميت وميت كحي)  بمداراة الوقت والحذر من عالمه والخوف من نفسه بفعل المرض أو الفقر ربما وهو احتمال كبير وارد ، لكن من قراءة أعمق سنجد إمكانية  توضيح العلاقة بين أن تكون في حيوية عالية وبالوقت ذاته (حي كميت) و (ميت كحي) ،  بأن المعري واع بذاته تماما وبالحياة للدرجة التي أعاقه هذا الوعي (اليقظة والانتباه) من أن يحيا كالأحياء ، بفعل هذا السلوك : “أحاذر عالمي وأخاف مني” ، فقد بلغ المعري مرحلة من الإدراك والفهم تدفعه نحو هذا الخوف (الذي هو درجة أكبر في اليقظة والانتباه) مما شل وجوده ، وهو بهذا يجمع بين تشاؤمه وحيويته ،  ويظل اعتراض واحد على هذه القراءة أنه من المعتاد أن الحيوية العالية تدفع لغير ذلك ، لكن ثمة استثناءات لذلك في حال الصدمات المعرفية وكذلك وجود إعاقة كالعمى قد تدفع لتحول تلك الحيوية العالية إلى منفعة الخوف من الوجود

ولنعود لقوله “أحاذر عالمي ، وأخاف مني” ،  
هل كان يصور نفسه بهذا المشهد شعرا أم أنه يعيش هذا الشعور المروع ؟ هل كانت حالة شعورية عابرة أم وضع عام يعيشه؟ 

إن ما قاله يفسر به قوله (حي كميت ، وميت كحي) وبالتالي هو يصف حالته الشعورية المستمرة ووضعه الاجتماعي  ، وكذلك بهجاء بني لحي “فألحى الناس بله بني لحي”، قد ربط إعابته ولومه الناس فكيف ببني لحيِّ ويقصد بها عشيرة ، بما كان قديما بين قيس بن الخطيم وهجائه لبني دحي ، 

وقيس بن الخطيم هو أبو يزيد الأوسي ، شاعر جاهلي ، قُتل والده في صغره فثأر له ونشبت بذلك الحرب بين الأوس والخزرج وله قصائد في هجاء بني دُحيّ ، وبعيدا عن هذا التوظيف 

إن قول المعري “أحاذر ” يشير لخارجه (عالمي) وقوله “أخاف” يشير لداخله (منّي) ، وبهذا  يحكي لنا الشاعر بأنه يواجه خطرا أكبر من الخارج حين الشعور ، إنه الخطر القادم منه هو ضده “هو” ، وهنا يبرز معنى النفس ، إذ تشير جملة (أخاف مني) لمعنى  (أخشى نفسي) ضمنيا  لكنها تشمل أيضًا كل الذات (أنا) ، والخوف من الذات ، هو خوف الخطأ ، المؤدي للثبور ، بهذا الشطر ينقلنا المعري لما يعيشه من قلق ضخم ، ويقظة كبرى ، لا يلزمها التعاسة بل المسؤولية

 لكن ما الذي يجعل المرء يصل إليها ؟ 

المعري بسياق أشعاره كان تشاؤميا ويهجو العيش بيد أنه مع ذلك حافظ على حياته جيدا ، فتلك العزلة إنما هذه لتجنب الردى لو تأملنا جيدا ، وذلك الزهد الذي منعه من أكل الحيوانات عطفا عليها كما نقل التاريخ ، إنما هو حبه وتقديسه للحياة بطريقة أخرى ، وأما هجاؤه لها فهو لكونها لم تمنحه ما يستحقه ، ومع ذلك فشعر المعري هو شعر الحكيم ، والشعر في كينونته هو تطهر من الفائض العاطفي ، وتعبير عن الانفعالات ، وقد وظف المعري حالته الشعورية تلك :

“أحاذر عالمي ” و “أخاف مني” ، لتبيان مسؤلية العيش ومدى ما يعانيه في حياته تلك من جانب ، وما به من حيوية من جانب آخر  .

0 0 votes
تقييم الأعضاء

🕶 كُن معنا!

ستصلك منشوراتنا كل أسبوع عن الجديد
والمثير بعالم الشعر والفلسفة

لن نرسل لك البريد العشوائي أو شارك عنوان بريدك الإلكتروني مطلقًا.
اقرأ المزيد في سياسة الخصوصية الخاصة بنا.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض