الشعر الممزوج : الانتقالات
لم يقف الشعراء عند شكل محدد للقصيدة في بناء النص الشعري ، فالشكل العمودي أو الحر من الممكن الجمع بينهما في نص واحد ليكوّنا ما نسميه :
الشعر الممزوج شكلا .
وحين يُبني النص على أكثر من بحر شعري (الوزن الموسيقي) بالإضافة لامتلاكه شكلين سيكون النص ، تحت مسمى
الشعر الممزوج شكلًا ووزنًا ،
وفي بناء مثل هذا النوع من الشعر يحتاج الشاعر لمهارات إضافية ، منها توثيق البناء الموحّد ، من خلال الوزن في حال كونه ممزوجا بالشكل فقط ، أو منح الوزن تقاربًا مشتقًا من البحور المستعملة بناء على تفعيلة مشتركة بينهما ، ليمنح الانتقال الموسيقي قبولًا سماعيّا ، أو من خلال منح التركيبة الإيقاعية للكلمات ما يسمح بالمرور والانتقال .
لكل شكل بالشعر ، أدوار ومهام ومزايا وعيوب ، بالعمودي نحن نلمح ونكرس الإشارة للأحداث ، وبالحر نحن نستطيع التعمّق وإطالة لحظة الحدث مع تخلصنا من المدى الموسيقي المقيد وهكذا فالشعر الممزوج ، هو استفادة من كل ما تقدمه تراكيب الشعر الممكنة بشتى الطرق .
بقصيدة “ليلى” ومطلعها :
“قرب بعينيك مني دون إغضاءِ..
و خلني أتملى طيف أهوائي”
، لـ بدر شاكر السياب ، نجد المزج حيث أجزاء من النص على الشكل العمودي وأخرى بالشكل الحر ، ونجد استخدامه لبحرين بالوزن ، والتراكيب المترابطة بالشعر الممزوج تعتمد على الموضوع والسردية واستمرار السياق ، لكن الانتقالات التي تحدث من بحر أو شكل لآخر ، تحتاج لتفصيل أكثر في تركيبها .
البحور المستخدمة : البسيط والكامل
،
أولًا :
العلاقة الموسيقية بين بحر البسيط :
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن ..
وبين البحر الكامل:
متفاعلن متفاعلن متفاعلن ..
من الممكن ضبط الانسجام والتآلف بالنص إذا أردنا استخدام البسيط والكامل، من خلال موسيقى “مستفعلن”
مستفعلن أساس بالبسيط ، وبالكامل تأتي زحافًا.
فبداية البسيط مستفعلن ، بالشطر أو السطر الشعري ..
وبداية الكامل بزحاف الإضمار تأتي متفاعلن : مستفعلن
وبهذا يوثّق انسجام محدود بين البحرين ، كذلك فإن الشاعر يستطيع من خلال : متفْعلن في زحاف الوقص بالكامل، وضعَ بعض الانسجام بين البحرين .
ويستطيع الشاعر أيضًا أن يلعب هذه اللعبة الافتراضية :
البسيط :
مستفعلن فعِلُن ، مستفعلن فعلِن
،
ثم يأتي بسطر من الكامل حال الانتقال :”مستفعلن مستفعلن فعلن” !
ثم “مستفعلن متفاعلن فعلن” وهكذا ،
وبهذا يستطيع الشاعر صناعة موسيقا متجانسة في نصه بين البحر البسيط والكامل ومن الممكن أيضًا أن ينهي النص بالدخول ببحر الرجز .
ثانيًا:
نعود الآن لنص قصيدة ليلى للسياب ، لنرى كيف اعتمد السياب على مستفعلن لوضع الانسجام بين موسيقا البسيط والكامل .
1. بدأ الشاعر قصيدته بالبحر البسيط بالشكل العمودي ، بالفقرة الأولى من النص من :
“قرب بعينيك مني دون إغضاءِ..
و خلني أتملى طيف أهوائي”
إلى
“عرفتها فعرفت الله عن كثبٍ
كأن في مقلتيها درب إسرائي”
ثم انتقل إلى البحر الكامل والشكل الحر بالفقرة الثانية .
2. انتقل الشاعر من البسيط للكامل من خلال : مستفعلن ، بقوله :ليلى هوايَ منايَ شعري=
مستفعلن متفاعلاتن.. ((الكامل المرفّل))
،
3. أسس الشاعر الانتقال مسبقًا بين الشكلين والبحرين من خلال بيت سابق يقول فيه : “ليلى هوايَ الذي راح الزمان بهِ..”،ثم أكمل بأبيات يصفها
4. عاد الشاعر عند الانتقال بين الشكلين والوزنين ليجعل :ليلى هوايَ ، ركيزة هذا الانتقال فمنح النقلة خفة تغطي ما هو متوقع من الانتقال المفاجئ.
5. تكرار اللازمة ، أو الجملة ، منح النص بانتقاله بين الوزنين والشكلين جاذبية الإصغاء لمزيد من الوصف أي بمزيد من الحرية في الحديث عنها.
6. هكذا هيّأ السياب المتلقي لتقبل الانتقال الموسيقي والشكلي من خلال إثارة رغبتنا بالاستماع لما سيقوله عن ليلى وقصته.
7. منح السياب الشكل الجديد بالنص وبحره صفة أخرى ليسهّل تقبّله قبل التمدد به والتعمق ، ثلاثة سطور شعرية بنفس القافية ثم بعد ذلك تحرر أكثر.
أكتفي بشرح الانتقال الأول بالنص ولعل بقية الانتقالات التي تعود للبسيط بعد ذلك على نفس المنوال واعتمدت أيضًا على المطلع الذي سهّل له العودة.
( نص قصيدة ليلى للسياب ستجده كاملا بمواقع الشعر عبر البحث بقوقل)
عصام مطير البلوي
الرسمة الملحقة للفنان الفرنسي Oscar-Claude Monet (1840-1926)