الخفاش والشعر والشاعر
للخفاش قصة طويلة في تاريخ وجوده مع البشر الذين سبقهم إلى الوجود بملايين السنوات حسب ما توصل إليه علماء حيث قدروا وجوده بالعالم منذ ما يقارب ٥٥ مليون سنة ، وأما تاريخه مع البشرية ونظرتهم إليه تحديدًا فكان غالبا مرتبطا بطقوس السحر واعتقادات النحس والتطير بمختلف المجتمعات ، إذ يثير شكله وطريقة حياته الغريبة ذلك الشعور بالانزعاج الذي عادة ما يكون توظيفه وربطه بمعاني روحية وقدرية في عصور مضت ولربما للآن كذلك،
وأما من حيث الجانب الإلهامي أدبًا فإن الشعر الذي يمثل وظيفة فنية تعبيرية و تواصلية بين الناس استخدمه رمزًا للسوء ، فالتوظيف الشعري يعمل في عرض الموقف البدهي للإنسان مع العالم كما هو عادةً ولا يخفى ما للخفاش من غرابة وقلة منفعة وارتباط بالليل وانطواء عن الفاعلية التي يبصرها الإنسان في الخيل والصقور ، وهذه الوظيفية الشعرية تعمل تلقائيا بلا تصنع عند الأكثرية من الشعراء فمن خلال الربط بين المشهد والذاكرة يكون المشترك بين الشاعر والمتلقي هو منبع التأثير وقد ساد بين البشر موقفا من الخفاش هو في حد ذاته ما يدفع نحو هذه الوظيفية التي تجعله بمقام السوء فشاعرية الخفاش {في أنفسنا } لكونه مريبا وهو أي الخفاش بشعرية النص قد يحمل جرعة من التأثير الشاذ المطلوب بالتنوع مثلا في نص يقتضي إثارة انفعال من هذا النوع ، ومع ذلك فمهما حاولنا تجميل الخفاش فإنه بشاعرية منخفضة جدا لأشعار تحمل كراهية وهجاء مقارنة بنصوص الغزل والمديح حيث يصعب بالهجاء استحداث الروح الجمالية والشعر وإن كان له أغراضه القتالية الصراعية في حال القتال والحماس فإنه ينخفض لمستوى الاعتماد على الظرف لإبراز تأثيره ويصعب جدا أن يقوم هو بإثارة الانفعال بدون الظرف ذاته وقد نفهم المعنى هذا في الشعر الغزلي الذي هو تجربة تعتمد على الفرد ويتقمص معناه المقروء أيًآ منا حين قراءته بعكس الحروب ونداءات الجماعة ، وما سبق يصب بشاعرية الشيء ضمنيًا ، بالإضافة لنزعة الجمال والسعي إليه ،
وبالنسبة لشعرية الكائنات والأشياء عموماً نعود إلى ما كتبه كوهين بكتابه بُنية الشعر :
“أن الأشياء ليست شعرية إلا بالقوة ولا تصبح شعرية بالفعل إلا بفضل اللغة فبمجرد يتحول الواقع إلى كلام يضع مصيره الجمالي بين يدي اللغة فيكون شعريا إن كانت شعرا ونثريا إن كانت نثرا وقد توجد أشياء ذات نزوع شعري فالقمر مثلا هذا الموضوع لم ينضب معينه عند شعراء جميع العصور ، وجميع الأمم ، لابد أنه يمتاز بخاصية جوهرية “
يهمنا مما قاله كوهين أن الشعر عنده مرتبط بالشكل اللغوي وانزياحات الاستخدام كما نعلم من منهجه لكن هذا التفسير ينقصه منذ البداية أن الوعي أكبر من اللغة وأن اندفاعنا للشكل الانزياحي نابع من رغبتنا في تجربة العالم بطريقة تشعرنا بالإنسان الكامن بنا وأما بخصوص النزعة الجوهرية للقمر فتفسيرها بالارتباط الأكبر مع الوجود البشري ، فالقمر والليل والنهار والدهر جميعها لها شأن كبير بالشعر لأن وظيفة الشعر فلسفية بطريقة غير ملحوظة ، إنه رفض للجمود ومحاولة في منح الكائنات معاني واقعية فعالة ومنها بالوقت ذاته العودة للمشترك السلفي والمعاصر والمستقبلي ،
وحين نتحدث عن الوظيفة الشعرية سنجد ديفيد هيوم مثلا بكتابه بحث في طبيعة المبادئ الأخلاقية يقول:
” قليلة هي أنواع الشعر التي تبدو مسلية أكثر من الشعر الرعوي ، وكل قصيدة منها حساسة حيث أن المصدر الرئيسي لشعورنا بالبهجة لسماعها هي تلك الصورة التي تنم عن صفاء لطيف ورقيق يتمثل في شخصياته ويثير بفضله عاطفة القارئ ، بالرغم من أن سانازارو جعل مشهده يجري على شاطئ البحر ، وقدّم أروع صور الطبيعة ، إلا أنه اعترف بأنه خطأ في اختياره ، فكرة العمل والصيد والخطر الذي يتعرض له الصيادون مؤلمة للتعاطف الذي لا مفر منه ، الحاضر في كل مفهوم السعادة أو البؤس الإنسانيين . ”
ديفيد هيوم ، بحث في طبيعة المبادئ الأخلاقية ، ص ٨٧
إن القول بجمال وتأثير الأدب الرعوي الذي يعني مديح الحياة الريفية/البدوية والحديث عنها وتقديمها ، لا يقف خلفه الرغبة بالتعاطف والتخلص من الفائض والتطهر (بلغة أرسطو) إنما ذلك يقع هامشيًا أمام نزعة الإنسان مقابل إشكالية “الشخص” الذي هو غرق وانهماك بالعلاقات المعقدة التي تصنعها المدن والمجتمعات وما تدفعه نحو نسيان أو (إهمال) مشاعر ووعي أصيل فيه وما أن يستمع لمثل هذا الشعر يستيقظ ذلك الشعور ويدرك حينها لذته ، إنه إحياء لأسلافه القدماء القدماء والسعداء السعداء مقارنة بصنمية الحياة اليوم ، وبالتالي فإن الحيوان بالشعر مقدم على ذكر أدوات مثل ” علبة الهندسة ، المكينة ، الطائرات إلخ” وليس هذا التقديم مبني على الأسلوب الذي تفرضه لغة الشعر :”إيقاع الكلمات والوزن والاستعارة” بل لكونه مبنيا على الوعي الإنساني وأصالة الذات الممتدة من الطبيعة ورغبته العميقة في العودة أو بمعنى أصح الهرب من السجون الصناعية/الاجتماعية ، وإذا كان ذلك ظاهرا في التوظيف الشعري فالخفاش ليس استثناء وقد ذُكر بالشعر لكن بعداد وجوده في تاريخ البشر ونظرتهم إليه ،
ولعله بالشعر أحسن حالا مما يقال عنه بالطب مثلا هذه السنوات التي ينتشر بها أنه مصدر لوباء هذا العقد “كورونا” مما حدا بعلماء الطب لدراسة الأوبئة والفيروسات ذات العلاقة بجسده وما هذا سوى امتداد لمعضلة وجوده معنا التي كان للشعر منذ أن كان موقفا منه وقد ناله بالأدب المحكي أيضًا ما يجعله في وظيفة مصاصي الدماء بالقصص والروايات المخيفة وكذلك بعالم “السينما” ،
وأما بالفلسفة فقد حاز على مكانة جيدة في التفكر مع مقالة “كيف يماثل أن تكون خفاشا ” وهي المقالة التي تحدث بها “توماس نيغل” عن مشاكل الوعي الفلسفية ، ما هو الوعي ومما ينشأ أو ما هو تفسير ظاهرة الوعي ، وهي المعضلة التي لا يمكن للعلم حلها ، وأما ما يهمنا الآن بالخفاش هو الإشارة للحيوي بالنصوص الشعرية حاله حال بقية الكائنات التي اتجه الشاعر نحوها لتوظيفها في نصوصه كما أسلفت ،
يقول ابن الرومي :
خفافيشُ أعشاها نهارٌ بضوئهِ
ولاءَمها قِطَعٌ من الليل غيهبُ
،
بهائمُ لا تُصغي إلى شدوِ معبدٍ
وأما على جافي الحداء فتطربُ
من قصيدة طويلة له على البحر الطويل يهجو بها قومًا وابن الرومي هو سيد الهجاء ولا يتفوق عليه برأيي أي شاعر لا بقديم الشعر ولا بحديثه وبعيدًا عنه ، وإذا تأملنا البيتين سنجد قيمة الشاعرية مبنية على ما بأنفسنا من حيوية اللفظ ومعناه ومكانته في يومياتنا ، فمن عاش بالمدن تحت سلطة الكهرباء ستكون قيمة الليل بالنص أقل من قيمته عند ابن القرى والبادية ، ومن هجر الطبيعة لن يجد بالنص ما يجده المتأمل الذائب بها ومما سبق أيضًا سنعي ما وراء استمرارية الشعر رغم انهيار الأمم والحضارات ، إنه ارتباطه بالأرض ، بتكويناتها وكائناتها البسيطة وما نستشفه من خيالات نوظفها لمشاعرنا ، فنحن حين نقرأ الشعر ، نعيد علاقتنا مع الكون/الأرض لنخفف قلقنا الوجداني من كوننا قد هجرناها أو أضعناها ، ومن هذا فإن الشعر بدأه البشر حين تمدنوا ، أو فلنقل أن قفزاته الجمالية وأساليبه المتقدمة بدأت حين شعر الإنسان بأنه قد جاوز ارتباطه الوثيق بالطبيعة وبدأ بمرحلة الدولة والمدينة ومن الممكن أن نستشهد على ذلك بالقفزة التي حدثت بشعر العرب بعد الفتوحات الإسلامية ونشوء الحضارة العربية .
للمعري أيضًا الكثير مما هو توظيف للحيوانات في نصوصه حاله حال بقية الشعراء إلا أنه يختلف قليلا عنهم كما سيرد بعد قليل، يقول المعري :
وعاشوا بالخداع فكل قومٍ
تُعاشر من ذئاب أو نمورِ
كان المعري كثير الهجاء للبشر يعمم أحكامه عليهم والتعميم لغة غاضبة أو حكيمة ، قد تكون انفعالا عابرا أو تفكيرا بلغ مراد الشعر في أعماقه ، وهو دلالة على أن خللًا ما قد استطاع عرقلة الرؤية وإعاقة التحليل/الفهم من التعمق أو أنه اليأس من الواقع البشري واستخدام الشعر سيفا ضده والشخص حين يعمم حكما سيئا إزاء مجتمع أو شعب أو فئة ، هو بين أمرين إما قد خصهم بهجائه مقارنة بما يتطلع له من آفاق في غيرهم أو أنه قد بلغ به الحال أن أدرك الذاتي ضد الشخصي ، أي أنه وصل إلى مراد الشعر بصفته ظاهرة تتحدث عن معضلة الإنسان في لباس الشخص ، فالإنسان لا الشخص هو القابع بعمق النص ، فالشخص شكل من أشكال المجتمع أي أنه شر ما ، أما القابع بالنص ، ذاك العمق الشعري الذي يمثل نزعة العاطفة واكتشاف الذات والعودة للمشترك بين مختلف البشر ، هو الإنسان لا الشخص فرأيي أختصره بأن الإنسان معنى عميق ومتخيّل ، وهو ذاتي وشاعري وخيّر ، وأما الذي عليه الخلاف وبه الشرور فهو “الشخص” فالشخص هو الفرد بالمجتمع ، أما الإنسان فهو الفرد في ذاته ، وقد كتبت سابقًا بأن كل مجتمع هو شر (بمنطق فلسفي) ، لكونه صراعًا نحن لا نراه غير أنه موجود ويشكّل القيمة الشخصية في تحديد الهوية ، وأما الخير الذي نتحدث عنه إنما ذلك نابع من العمق المحارَب ، من ذلك الإنسان المقموع ، وهو يقفز للمشهد ثم يعود ، كما يكون حديثنا عن الشعر ونزعة ما هو الإنسان القابع به وما هو الشخص الذي نظنه كل النص .
وإذا عدنا لمشكلة الوعي ، وما أصبح مشكلة العلم المعاصر ، فإن الذات هي معضلة المعضلات لكونها شاملة للوعي وما ليس وعيا وهي قد ابتعدت عن نواتها الأولى بفعل المجتمع والتضاريس والطقوس وقد أخذت اللغة كل تلك الأدوات وغرستها بها لتظل الذات بنبضها الروحي العتيق بعيدة عن الواقع إلا أن الشعر يشي لنا بشيء منها حيث كل قصيدة شعر في عمقها تحارب الشخص وتدافع عن الإنسان ، تحارب المجتمع وتطالب بالذات ، تبتعد عن المتخيّل وتقترب من الحقيقة بالفرار من الجمود عبر خيالات جديدة ابتكرتها لكون الذات تبحث عن وسيلة ولا وسيلة بهذا العالم سوى الخيال ، ولعل هذا ما يفسر فلسفيا نزعة الإزاحة بالشعر (الاستعارات) وقد تظهر بعض القصائد بعيدة عما نستشفه هنا لكن ظاهرة الشعر تشير له فأنا الشعرية ليست سوى صرخة عميقة عما نعانيه من كوننا أشخاصًا وهو أيضًا ما يؤكده ذوقنا حين نميل للجمال الشعري ، وإن كان يفسره بعضنا بنزعات جنسية (فرويد مثلا) لكن هناك ما هو أعمق من هذا المستوى .
حين نعود للمعري فإننا نجد الاستناد على ذكر الكائنات الحية في نصه السابق يعيدنا نحو الطبيعة وإن كانت للمعري هي إثبات بكونه واعيا بالعالم ويخشى ويدرك العلاقات التي يعيشها البشر مع الحيوانات على هذه المعمورة ، إن المضمر في شعره أنه لا ينقصه في بشريته معرفة تخص الحياة وما بها ، وهذا ذاته ما يفعله الشاعر المعاصر في حدود ما ، حين يوظف هذه الكائنات في شعره وهو بعيد تماما عنها في قلب المدينة الحديثة محاطا بالعمران والإشارات ، لكنه يريد التذكير بأنه كذلك يبصرها ويحافظ على وجودها لديه .
الخفاش مرة أخرى
العلمُ للرجل اللبيب زيادةٌ
ونقيصةٌ للاحمق الطيَّاشِ
،
مثل النهار يزيد أبصار الورى
نوراً ويُعمي أعين الخفَّاشِ
ابن التلميذ كان شاعرا وطبيبا ،نصراني الديانة ، له مؤلفات متنوعة وقد توفي سنة ٥٦٠ هـ ، وبالنظر لنصه السابق نجد غرابة الخفاش جعلته بالكفة الأخرى بمقابل البشر ، موقفه من الضياء ورمزيته التي استخدمها الشاعر في نصه ، وبالعموم فإن الشعر العربي مكتظًا بهكذا معاني ، فمعظم ما قرأته عنه كان يصب بالمعنى ذاته أو ما هو قريب منه ، كقول عبدالغني النابلسي :
وأضاءت بالحق أنوار شمسي
فرأوني بأعين الخفاشِ
وبضع أبيات استخدمته دلالة على القبح والسوء بأسلوب آخر كقول الشاعر السوري محمد الهلالي :
بلدٌ بها الخفاشُ أصبح ناطقًا
والبومُ أمسى بلبلا وهزارا
والبيت من قصيدة طويلة بها تنوع فريد بالهجاء والمديح لهذا الشاعر الحموي وقد وظف الخفاش وغرابة حياته لجعله ناطقا بمعية البوم الذي أصبح بلبلًا وهزارًا ، وهو هجاء فريد ومثير .
إننا نبصر في هذه الخيالات الشعرية من حيث توظيفها الخفاش وغيره ، مهمة الاقتراب من الطبيعة بطريقة الاستخدام الجديد للعلاقة بين الناس وكائنات الطبيعة ، فتلك الخبرات التي نالها الفرد من علاقته بالعالم لم تعد كافية لبقائه فهو يبني خياله ليشعر بمزيد من وجوده عبر صناعة التوظيف الشعري ، وهذا الاستخدام غير المادي منح معنى لوجوده عبر قدرته على الابتكار ، قدرته على منح الخفاش مثلا وجودا في الشعر يحرر “الخفاش” من العيش معزولا ومنبوذًا ، ويدفعه نحو وجود مفيد ، فالشعر هنا عالم الفرص الكبرى لتكون مهمًا ، وإن كان قد نال الخفاش سوء الذكر به لكنه من حيث الشاعرية بالنفس والشعرية بالنص قد حقق الانفعال الأدبي المؤثر ، وقد لاح للشعراء والروائيين إمكانية أكبر بدمجه مع الإرث البشري ، ولأن الشعر تحديدا هو تراكم التجربة عبر الزمن ، فإن ظهور الخفاش بوظيفة ناقل الأمراض مثلا سيكون وظيفة أخرى مستقبلية بالنصوص ، ولربما حدث بالمستقبل أن يظهر بمظهر المظلوم في نصوص أحدهم وهكذا هو دور الشعر ، إذ يدفع نحو موقف آخر ليؤكد أهمية الحياة حتى لو كان ذلك بعكس حقائقها .
عصام مطير
المراجع :
١.Bats – Disease-Prone but Beneficial – Heimo Mikkola
2. بنية اللغة الشعرية – كوهين
٣. بحث في طبيعة المبادئ الأخلاقية
٤.ديوان المعري ، عبدالغني النابلسي ، محمد الهلالي ،. ابن الرومي ، ابن التلميذ
٥. ماذا يمثل أن تكون خفاشا ، توماس نيغل
الرسمة الملحقة للفنانة Rachil Toll