المجتمعات البدائية والمتقدمة وجملة التغيير
البدايات تكون ضعيفة وهزيلة وهشة وسرعان ما ينطلق الانسان بإستمراره إلى ذروة قوة الحدث والسلوك متى ما توفرت كل الظروف والإشتراطات للوصول إلى تلك النقطة ومن ثم الهبوط عنها رويداً رويداً أو مفاجئةً حسب أقداره وظروفه
الطفل لا يمكنه أن يصل إلى المستوى العقلي للانسان الراشد دون المرور بكل تلك الاحداث والعقبات والتجارب والادوات خلال زمن يوصله الى تلك النقطة وحينها لن يكون طفلا ولايمكنه ذلك .
يضحك الطفل حيث لا يسعنا الضحك ويبكي حيث لا نبكي ويخاف ويهرب ويفزع حيث لا يمكننا ذلك ، ويحتاج الطفل إلى ملهم ونموذج وحامي ومربي ومعلم فتكون كل حياته في تلك الفترة تحت رعاية من حوله ، فقدراته بسيطة وفهمه بسيط إلا أنه مع مضي الوقت يستفيد ويتعلم ويقوى جسده من استمراره بالحركة والمحاولة والتجربة .
الطفل مثال على البراءة بالنسبة لنا وقد لايكون كذلك بالنسبه لأقرانه ولكننا أيضاً ننزعج منه ونقسو عليه ونعتبره من ممتلكاتنا الخاصة جداًوبعضنا يود أن اطفاله لايكبرون وهكذا هي المجتمعات المتقدمة بالعصر الحديث والمجتمعات البدائية المعاصرة .
المجتمع البدائي كالطفل الذي يعتمد على غيره ليعيش فقدرات هذا المجتمع بسيطة من حيث العقلية التي يحملها فالعقلية البدائية تجعله عائلا على غيره، وهو يهتم بما لايهتم به غيره ويغضب مما لايغضب منه غيره ويفرح ويسعد ويرضى ويخاف ويهلع من امور لا تلاقي نفس الفعل من غيره ،،
وهو ضعيفٌ هزيلٌ ومن الممكن أن يؤذي نفسه بغباوته وحماقاته لولا أن هنالك مجتمعات أخرى متقدمة أخذت على عاتقها تربيته ومنعه من أن يتجاوز ويؤذي نفسه تماماً أو يؤذي غيره وليس ذلك لأنه ابنها وعلاقتها به علاقة الامومة والأبوة إنما لكون المجتمع البدائي كحال الطفل الذي ورث ثروة كبيرة جداً وكان إلزام قضائي بأن يشرف عليه بالغان يربيانه ويحافظان عليه وهذان البالغان يتمنيان أن لايكبر الطفل أبداً كي ينعم بتلك الثروة عبر تلك الوصاية !
كون المجتمعات المعاصرة بالأصل كانت بدائية ثم من الطبيعي تطورها وتقدم بعضها على بعض لا يعني أبداً أن من هو بدائيٌ بالنسبة لغيره سيبقى هكذا دائماً فالاطفال يكبرون والكبار يشيخون والشيخ هذا ليس الا طفلا هرِم ، هكذا منطق الحياة والمجتمعات ليست الا كالانسان إلا انها حينما تهرم وتشيخ لا يعني نهايتها بل يعني انها أصبحت بدائية بالنسبة لغيرها مع امكانية نهوضها والتفوق على من تقدم عليها متى ما اخذت بالادوات المتطورة التي ساعدت غيرها على ذلك التقدم او جائت بادوات اكثر فائدة مما لديهم ولا يكون ما سبق إلا بتغيير طرق التفكير والاستنباط وفلسفة الوجود أي فلسفة الحاجة التي افسر بها نظرتي هذه .
حال المجتمعات العربية كحال المجتمع البدائي بين مجتمعات متقدمة أخذت دور الوصاية عليه ليس حباً فيه إنما لتلك الثروة التي تمثل الحاجة إليهم .
فهل من الممكن نهوض المجتمع البدائي وهو تحت وصاية غيره ؟
هنا ينبغي علي اولا ان ادرج سلسلة تعاريف ومنها اتجه الى حليل الموقف وصياغة الجواب ،
العقلية بعلم الاجتماع :“جملة العادات الفردية أو الجمعية في التفكير او الحكم علما بان العادة تبعد الى حد كبير التفكير النقدي لصالح الاحكام لمسبقة “
يقول غاستون بوتول وهو احد علماء الاجتماع وله دراسة حول مفهوم العقلية :
“العقلية جسم من المباديء والاعتقادات والمعارف القارة مما فيه الكفاية ليقتدر الرجوع إليها في كل وقت وينتمي إليها بقوة جميع أفراد مجتمع بعينه”
فإننا هاهنا أمام حقيقة لا مفر منها إن ما بالعرب من بدائية بالنسبة لغيرهم معوله الرئيسي المباديء والاعتقادات والمعارف السائده لديهم وليس كما يحاول تصويره البعض أنه تماما بسبب الوصاية التي تفرضها المجتمعات المتقدمة ، أي نعم إن تلك الوصاية التي تفرضها تلك المجتمعات له دور بما هم فيه ولكنه دور ثانوي مقارنة بدور العقلية البدائية التي يحملونها،
وإذا ما أخذنا بتفسير العقل بين عقلٍ مكوِّن وعقل مكوَّن كما سأنقل تعاريفها :
يقول بول فوكييه :
“العقل المكوِّن: الملكة التي يستطيع بها كل انسان ان يستخرج من ادراك العلاقات بين الاشياء مباديء كلية وضرورية وهذه الملكة واحدة”
ويقول لالاند:
“العقل المكوَّن : منظومة المباديء المقررة والمصانة التي لا تتغير إلا ببطء شديد بحيث يمكن اعتبارها من منظور الافراد وظروف الحياة بمثابة حقائق أبدية”
وكما علّق جورج طرابيشي في كتابه نقد النقد “نظرية العقل” على ماسبق :“بأن العقل المكوَّن عند لالاند حصيلته فاعلية العقل المكوِّن وحصيلة استدلالاته”
يقول لالاند ايضاً:“العقل السائد جملة المباديء والقواعد الذهنية السائدة في فترة زمنية ما ، هو انتاج العقل الفاعل ، اي ذلك النشاط الذهني الذي يتميز به الفرد البشري على الحيوان إذاً في العقل نفسه لا خارجه”
يقول ليفي ستراوس:“العقل المكوِّن الفاعل يفترض عقلا مكوَّناً وهذا يعني إن النشاط العقلي الفاعل إنما يتم انطلاقاً من مباديء وحسب قواعد أي نطلاقا من عقل سائد “العقل المكوَّن” …”
يعلّق جورج طرابيشي على ماسبق وبمجمل نقده لمشروع محمد عابد الجابري بنقد العقل العربي :
“العقلية لا تعدو في نهاية المطاف أن تكون من المظاهر الاساسية التي يمكن ان ينجلي فيها العقل المكوِّن بل هي في بعض الاحوال ترادفه .
فاذا صح تعريف العقل المكوَّن وبأنه :جملة المباديء والقواعد الذهنية السائدة لفترة زمنية ما” أو “منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما والتي يعطيها خلال تلك الفترة القيمة المغلقه” فإن ذلك هو ايضا بالعديد من الحالات تعريف العقلية”
إذاً مما سبق ودون الخوض في عميق المصطلحات والخلاف النقدي بين جورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري فان ما يهمنا هو التعريفات التي نقلناها لننطلق إلى الاجابة على السؤال :
كون المجتمع البدائي ملتزم إلى حد كبير بالسائد لديه من افكار وطريقة حياة فإنه لايعني بقاءه عليه تماما ولا يعني التغيير بما سبق سيكون بطيئا جدا جدا لان الانعزال عن غيره من المجتمعات مستحيل اولا وثانيا فان البط الشديد بالتغيير كان من الممكن ان يكون كذلك في حال انعدام التواصل بينه وبين من تقدم عليه او في حال التواصل المحدود
فنحن هاهنا لا نتحدث عن مجتمعات بدائية في حقبة زمانية سحيقة ليس بينها وبين المجتمعات المتقدمة الآن أي تواصل او كما كان مسبقا بينها وبين من تقدم عليها بزمنها حيث التواصل المحدود والضئيل إنما نحن نتحدث عن مجتمعات بدائية بالنسبة لغيرها وتحت وصايتها وهذه الوصاية لاتعني عزلها ابدا بل ان منطق الحاجة يجبر المتقدم على التواصل مع المتأخر رغماً عنه لأن التقدم ذاته لا يعني الاكتفاء والاستغناء ابداً وهذي هي فلسفة الوجود أي فلسفة الحاجة .
إن التواصل الذي أُرغم عليه المتقدم هو بوابة النمو لغيره ومرحلة التعليم والتقليد والمحاكاة والتجريب فالاستفادة والاقلمة والصياغة
العولمة ذاتها أدت إلى فتح الشبابيك والابواب للمجتمعات البدائية كي ترى وتلاحظ ومع مرور الوقت من الطبيعي جداً أن تكون جملة المباديء والعقائد والافكار والعادات والتقاليد التي ساد بها المتقدم متسللةً لعقل الفرد بالمجتمع البدائي رغما عن المتقدم وعن مناصري العقلية البدائية
ومع زخم الواصل والاحتكاك يزداد عدد المتاثرين بطرق تفكير جديدة سرعان ما يتبنوها وسرعان ما يطورونها وفق احتياجهم حيث ان الحاجة ذاته المتمثلة بالمجتمع البدائي تدفعهم بشكل اسرع واقوى مما هي عليه بالمجتمعات المتقدمة ،
وازدياد العدد وانتشر هذا التغير بالتفكير بالمجتمع البدائي إلى الاصطدام والتغير والانقلاب وزوال بضع مباديء وافكار بدائية ليحل محلها ما هو اكثر عصرية واكثر تقدما وهذا ما يفسر ثورت الربيع العربي التي لم نتهي بعد الا انها دلالة على ان هذه المجتمعات بدأت تكبر وأن الوصاية ذاتها ليست بذلك الحجم القوي الذ يمنع نمو ذلك الطفل وتمكنه من الاعتماد على نفسه رويداً رويداً بينما الاوصياء عليه ليس بامكانهم منع ذلك الاعتماد إلا إذا عمدوا إلى ممارسة كل الشرور عليه وهذا يستحيل لعدة اسباب اهمها ان التغير تدريجي وان الكبار المتقدمون انفسهم سيشيخوا مع مرور الزمن
فاذا مافكروا بالقضاء على مجتمع باكمله فانهم انفسهم يعجلوا بهرمهم كون الحاجة ذاتها تؤدي الى ذلك المصير ،
ما يفعلونه الان هو فقط محاولة تاخير هذا النمو والتطور بطرق ملتوية كدعم التيارات الاصولية والمتطرفة وايصالها للسلطة للقيام بمحاولة ردع او تثبيط جملة التغيرات العقلية بالمجتمعات العربية الا ان هذه الخطوة وان كانت خبيثة نوعا ما الا انها ليست سوى خطوة غبية لان هذه الجماعات ذاتها متأثرة بطرق تفكير جديدة والجيل الجديد بها مختلف نوعا ما عن الجيل القديم واذا ما انحرفت هذه الجماعات عن رغبة الجماهير فانها ستسقط حالها حال غيرها ولن يكون امام الغرب سوى ان يقوم بالعمليات العسكرية بالاحتلال وهذه الخطوة مكلفة جدا وستكون نتائجها وخيمة على العالم ككل خاصة ان ايصال الجماعات الدينية المتشددة للسلطه كان بموافقة غربية كمهيمن على المجتمعات البدائية لتكوين حكومات شبه ثيوقراطية بالمستقبل
والانقضاض على المجتمعات بعد ذلك بحجة مقاومة الارهاب او ترسية وتحقيق الشرعية الدولية لن يوقف نمو الطفل ولن توقف شيخوخة الكبير
وللحديث بقية
بقلم : عصام مطير البلوي
ارجو من ينقلها ان يكتب اسم مؤلفها حفاظا على الحقوق
تحياتي