المشهد المستدعى والتوظيف بالشعر
يشكّل المشهد في الشعر حيوية الالتقاء بين الشاعر والمتلقي ، في مهمة الانتباه والإذعان العاطفي والنفسي عند الأخير ، فالشاعر يبني المشهد من خلال عزفه على آلته النظمية ليحقق الأقرب إلى ذاته في التعبير ، والذات هنا هي الذاكرة غالبًا ومقاومتها وهي واعية لكنها تحت أمرة التوغل المفاجئ فيها ، في حين عند المتلقي يكون المشهد هو الخلاص من الذات عبر تجربة الذاكرة في أحداث الآخر (الشاعر) ولقد ذكرنا سابقا عن شاعرية المشهد و كان حديثنا عن المشهد الشعري بصفته قصة وصورة نبصر بها ما نبصره بمشهد سينمائي ، وهذا غالبا هو معظم الشعر الجيد ، لكن هناك نوع من المشاهد يدخل في إطار الاستدعاء للذاكرة المشتركة بين البشر ، كأحداث طبيعية ستفسر لنا عبر التوظيف ما يريد الشاعر قوله ، فها هو مجنون ليلى يعزف بطريقته عبر نصه هذا :
مَتى يَشتَفي مِنكَ الفُؤادُ المُعَذَّبُ
وَسَهمُ المَنايا مِن وِصالِكِ أَقرَبُ،
،
فَبُعدٌ وَوَجدٌ وَاِشتِياقٌ وَرَجفَةٌ
فَلا أَنتِ تُدنيني وَلا أَنا أَقرَبُ
،
كَعُصفورَةٍ في كَفِّ طِفلٍ يَزُمُّها
تَذوقُ حِياضَ المَوتِ وَالطِفلُ يَلعَبُ
،
فَلا الطِفلُ ذو عَقلٍ يَرِقُّ لِما بِها
وَلا الطَيرُ ذو ريشٍ يَطيرُ فَيَذهَبُ
،
وَلي أَلفُ وَجهٍ قَد عَرَفتُ طَريقَهُ
وَلَكِن بِلا قَلبٍ إِلى أَينَ أَذهَبُ
، وقد دفعته عاطفته الثائرة وانهماكه الفريد بها لحكاية ما يقاسيه من عشق ليشكل لنا مشهدًا أوليًا :
مشهد المخاطبة بين عاشق محروم ومعشوقة لا تعيره الاهتمام والوصل الذي يريد ، فهذا المشهد الشعري هنا مكرر بالحياة ومتناول بكثرة في نصوص الأدباء ، إنه تناص واقعي لا عيب فيه على كل حال باستثناء برود شعريته مقارنة بالجديد وهذا ما فعله المجنون من خلال المشهد المستدعى من الذاكرة وتوظيفه عبر التشبيه التمثيلي، فهذا القفز من (مشهد عام يمثل إطارًا للنص) نحو (مشهد مستدعى يمثل حكاية المعنى) هو ما منحنا شعورا بشعرية النص وشاعرية الحركة من الإطار إلى المركز ، من المخاطبة واللوم إلى التقاط مشهد الطفل والعصفورة ، ليدفعنا نحو الدخول إلى ذاكرتنا في علاقتنا مع الطيور ، ورابط طفولتنا ، وموقفنا ، وبالتالي أصبحت القراءة عودة هادئة لذاكرتنا لكن من خلال الآخر الذي يحكي لنا تجربته ، إننا نبصر الآن معاناته وموقفه وقصته ، لنكوّن تجربة جديدة تمنح ذكرياتنا فرصة للبقاء (عبر الاستذكار، أن أتذكر طفولتي أو طفولة من يهمني وعلاقته مع الطير ) لأجدها في تشبيه وتخييل يحكيه لنا الشاعر ليوصل معانيه وبالتالي منحتُها معنى جديدًا في ذاتي ، أصبح المشهد الآن ليس ذكرى فقط بل جزء من معاناة شاعر والشعراء من أصناف الملهمين وكذلك أصبح مشهد الطفل والطير جزءًا من ثقافة أدبية تمثل معرفة متقدمة مقارنة بمعرفة بدائية تخص الذكرى فقط، وقد تعلمت طريقة تفكير إضافية بعمقي : إن هناك معاني بالعالم هي ضمنيا جزء من سلوكياتي وقصصي وأقداري ، فهذه المعاناة من كونك عاشقا لا تستطيع ”الفكاك من“ ولا تستطيع ”الذوبان في“ هي معضلة وجود ، لم يعد حضور الإنسان بها سوى غياب عن ذاته التي أصبحت “الآخر المعشوق” ،
ومن هذا قول عمر بن أبي ربيعة :
وَلا قُربُ نُعمٍ إِن دَنَت لكَ نافِعٌ
وَلا نَأيُها يُسلي وَلا أَنتَ تَصبِرُ
ومنه قول نزار :
اعتيادي على غيابك صعبٌ
واعتيادي على حضورك أصعبْ
نعود لتوظيف المشهد المستدعى عند مجنون بني عامر :
كَعُصفورَةٍ في كَفِّ طِفلٍ يَزُمُّها
تَذوقُ حِياضَ المَوتِ وَالطِفلُ يَلعَبُ
،
فَلا الطِفلُ ذو عَقلٍ يَرِقُّ لِما بِها
وَلا الطَيرُ ذو ريشٍ يَطيرُ فَيَذهَبُ
لنجد أن المشهد ذاته يبدو في البداية غير متوافق مع بيتيه الأولين :
مَتى يَشتَفي مِنكَ الفُؤادُ المُعَذَّبُ
وَسَهمُ المَنايا مِن وِصالِكِ أَقرَبُ
،
فَبُعدٌ وَوَجدٌ وَاِشتِياقٌ وَرَجفَةٌ
فَلا أَنتِ تُدنيني وَلا أَنا أَقرَبُ
فهذا الطفل الذي يعبث بالطير ، ويعذبه ، لا يقصد به الشاعر ليلى إلا بدلالة (يرقّ له) فهذا الرابط بين الشاعر بصفته عاشقا وبين الطير بصفته معذبًا يقترب من الموت ولا يستطيع الطيران
هو رابط العجز عن النجاة ، وهو تصوير ضمني بأن العشق موت ،
وقد يدفعنا تحليل النص نفسيا ،نحو تصوير الشاعر ذاته بـ “عصفورة” وما يسترعي النظر للتأنيث/للأنوثة التي صور بها ذاته في هذا العشق مقابل التذكير/الذكورة التي شكلها لليلى من خلال ” كف طفل” لكن الطفل هنا يشير لذكورة بريئة تناسب مخاطبة معشوقته ،بيد أن براءة العصفورة (أعمق) وتناسب مجنون ليلى الذي يمثل الطرف الأضعف بالعلاقة ، في حين نالت ليلى براءة الطفل ، لكنها براءة أقسى (براءة غير مكترثة بحياة الآخرين) ، ثم نجد الشاعر قد عاد بالبيت الذي يليه لاستخدام ”الطير“ وقد يبرز احتمال أنه تحت تأثير لوزن وما يناسبه لكني أرجح التنوع اللفظي والقناع ، فحالة الظهور المفاجئة لما يراه من عاطفة أعظم جعلته يستخدم العصفورة بدل العصفور وهو قادر على نظمها عبر تعديل بسيط في الشطر ، إلا أنه فضل نفسيا وذوقيا استخدام لفظ ”العصفورة“ ، تلك الحالة الانكشافية سرعان ما عادت للقناع من خلال ”الطير“ حين عاد للحديث عن ذاته بعيدا عنها / عن الطفل : ”فلا الطير ذو ريش يطير فيذهب“ فهنا كان العاشق طيرا لأنه باتجاه النجاة والطيران لكن حين يكون الحديث عنه أمام معشوقته فهو ”عصفورة“ وهي ”طفل“ : (فلا الطفل ذو عقل يرقُّ لما ”بها“).
أخيرًا يشكّل المشهد المستدعى من الذاكرة وتوظيفه شعرًا في حال فرادته (قراءته لأول مرة بالشعر) دهشة وإعجابًا في كوننا نعي علاقة ما بين أقدارنا وبين عالمنا الطبيعي ، بين ما نعانيه من قصص وأحداث وبين ما نشاهده في عالم الطبيعة والبراءة الساذجة ، والدهشة هي بادرة فلسفية أو كما قال عنها أفلاطون في محاورة ثياتيتوس على لسان سقراط ” إن ثيادوروس يا عزيزي/ثياتيتوس ، لم يخطئ في تقديره لك ، وهذا الشعور بالدهشة من علامات الفلاسفة بل ليس للفلسفة من مصدر غيره“ ، وأما الإعجاب الذي أقصده فهو لذة التعلم وإضافة معنى جديد لذكرى قديمة.
عصام مطير
الرسمة الملحقة للفنان البريطاني James Northcot جيمس نورث كوت ت١٨٣١م
المراجع :
بسط سامع المسامر ، في أخبار مجنون بني عامر ، شمس الدين بن طولون ، شرح وتحقيق عبدالمتعال الصعيدي ، مكتبة القاهرة ، ص٨١
ديوان عمر بن أبي ربيعة ، قدم له د فايز محمد ، دار الكتاب العربي ، الطبعة الثانية ، ص ١٢٢
الأعمال الكاملة ، نزار قباني ، قصيدة أين أذهب ، ص٦٩٥
محاورة ثياتيوس لأفلاطون أو عن العلم ، تقديم أميرة مطر ، دار غريب ص٤٦