المخاطبة في الشعر …
ينقل الشاعر أحاسيسه ومشاعره بالنص الشعري من خلال أساليب مختلفة من التعبير ،
لعل أهمها هو المخاطبة حيث تمنح معنى التواجد وتعزيز مركز الشاعر وعلاقاته مع محيطه وتضيف القدرة على تركيب المشهد وتوزيع المعاني في أشكال المناداة والمناجاة والحوار والدعاء إلخ …
والمخاطبة بالشعر ، هي صناعة لمشهد قصصي ، قد يطول ويقصر ، وقد يكون جزءًا من تسلسل مشاهد أخرى وأساليبها المختلفة ،
وهي مؤدية لغرض الإبلاغ ومفاقمة الشاعرية في المقارنات والاستدراك والالتفات والمفارقة ،
ومن خلالها قد يوصل الشاعر معانيه بطريقة أسرع وأوجز وأبلغ من الوصف المباشر لحاله ،
والمخاطبة قد تكون بين الشاعر ونفسه أو بينه وبين الآخرين ، أو بين مجموعات ومجموعات ،
وفق ما يريد من نصه ، وأغراضه ،
وشاعرنا محمود البارودي في نصه القادم خاطب الحمَام بندائه وتساؤلاته وكوّن المشهد منذ بداية النص،
فشاعريته كانت
عظيمة حين قال :
أَلا يا حَمَامَ الأَيْكِ إِلْفُكَ حَاضِرٌ..
وغصنُكَ ميَّادٌ ، ففيمَ تَنوحُ ؟
،
والبيت مطلع لنتفة شعرية له على البحر الطويل ،
وإذا تمعنا بالبيت جيدًا ، سنجد أن المشهد الذي نراه بالبيت يجعلنا تلقائيًا ، نعكس حال الحمَام إلى الضد عند الشاعر
،
وبذلك فإن السياق المتوقع للنص أن يشكو الشاعر حاله بعد أن مهّد لنا وصف حاله بمخاطبته الحمام وسؤاله
فها هو يكمل المشهد:
غَدَوْتَ سَلِيماً في نَعِيمٍ وَغِبْطَة ٍ
ولكِنَّ قلبي بِالغَرَامِ جَرِيحُ
،
وبهذا يكون البيت الأول صوت الشاعر ، والبيت الثاني صداه ، فالمخاطبة الشعرية تأخذ أسلوب الضد أو المقارنة الضمنية ، ويكون المعنى المتبادر يتبعه معنى لاحق يخص الطرف الآخر ، ويأتي البيت الشعري صوتًا للشاعر والبيت الذي يتلوه عادةً صداه المعنوي أو تفسيرًا لمقاصده أو تحديدًا لها من خلال الإخبار عما لديه أو ما يعيشه ، وهو بهذا يقيم ما يُعرف باسم الالتفات ، يخاطب ثم يلتفت لذاته ويخبر عنها وهكذا
أي أن الشاعر يؤسس بالمخاطبة ثم يشرح ويفسّر ..
في البيت الثالث ،
فاجأنا الشاعر بإبداع في السياق ، حيث انتقل من تفسير الحال “الواقع” إلى المحال “الخيال” في مخاطبته ،
بقوله:
فإن كُنتَ لى عوناً على الشَّوقِ فاستعِرْ
.. لِعَيْنَيكَ دَمْعاً، فَالبُكَاءُ مُريحُ
،
ثم ختم المشهد بتأكيد المقارنة وتفوّقه بدموعه :
وإلاَّ فدَعنى من هديلكَ ، وانصرِفْ
فَلَيْسَ سَواءً بَاذِلٌ وشَحِيحُ
،
بهذا النص ، يبرز أسلوب المقارنة والضد لتعظيم الشاعرية ،
وهذا ما نراه بالشعر عمومًا من خلال ذكر المتضادات إما ألفاظًا أو أحداثًا أو مشاهد
فالشاعر قد يضع المتضادات لتبيان الحال فمثلًا الليل والنهار ، الموت والحياة ،
ومن خلال الأضداد يمكّن ويبالغ ويعزز طرفًا على طرف بسياق النص ليشير لما يقصده
وبالنسبة للبارودي ،
أراد حكاية معاناته وحزنه وغرامه ، فاختار أن يضع مشهد المقارنة مع الحمام الذي خاطبه وبيّن الفروق بينهما
وبهذا أثار عاطفتنا وأبلغنا معانيه بتركيب المشهد الذي نتخيله وهو يتكلم مع الحمام وينقل لنا خطابه ويضعنا بموضع الحكم المؤيد له .
،
المخاطبة في الشعر ، مقالة كتبها :
عصام مطير البلوي
الرسمة الملحقة للفنان الامريكي الكندي
Ernest Lawson (March 22, 1873 – December 18, 1939) was a Canadian-American painter