الكلمة لا الماء يا “ناسا”..

التعبير في حد ذاته هو شعورٌ بالوجود، وبالذات معًا، فالمرء حينما يعبّر يؤكد العلاقة بينه وبين العالم، عبر هذا الكلمات والجمل، التي لو نظرنا إليها لوجدنا كيف أن الصوت الفيزيائي فيها، هو التلاقي مع الطبيعة الفيزيائية المحيطة والاستمرار فيها وأما المعاني التي تشير إليها (أعني الكلمات والجمل حين تحيلنا لمرجعيات ومعاني في أذهاننا ) ، فهي أي المعاني تمثل المحتوى الذهني الذي نعيه وندركه عن العالم وبه وفيه وهذا المحتوى هو الأفعال الذهنية والظاهرة العقلية ذاتها وهي امتداد لحيوية الجسد ونشاط الدماغ وبقية الأعضاء، التي انبثق منها العقل ذاته ليعي الوجود، وهنا ستكون الكلمات التي نعبّر بها ممتدة من العقل/المستوى المعني بوعي العالم الذي بدوره يشير للحياة بهذا الجسد، وأيضًآ ستكون الكلمات بصفتها صوتا فيزيائيا، ممتدةً من فيزيائية الجسد ، وسنرى كيف ينبثق المعنى من صفات الصوت ومحدداته الفيزيائية لتشكيل الحروف وبالتالي تمكين المعنى المقصود من الشخص إلى آخر عبر الفضاء الممتد بينهما، وهنا نجد أيضًا أن الفيزياء حفظت الرسالة في رحابها إلى أن بلغت الطرف الآخر.
لقد انطلقت الكلمات إذن، امتدادًا بين فيزيائية الجسد وفيزيائية الأرض لتصل بدورها إلى فيزيائية انسان أخر، وهي ايضا انطلقت من وعي شخص/عقله إ لى وعي/عقل شخص آخر من خلال الفيزياء البينية بينهما كذلك مما يجعلنا نقول بأن فيزياء الأرض هي فيزياء تؤمّن التواصل بين حياتين وينجم عن كل هذا ، أسئلة لابد منها :
هل الفيزياء المحيطة تضمن انتقال المعاني عبرها بفعل فك التشفير الذي يفعله المتلقي حين يسمع حديثا موجها إليه عبر الكلمات أم أن هناك ضامن لبقاء انتقال المعاني هو أن الفيزياء نفسها تحافظ على طاقة المعنى المجهولة (أعني غياب معرفتنا بطبيعة الوعي ) وتكويناته الفيزيائية البينية للانتقال السلس في وسط هو أيضا قد يحمل صفات ناقلة للوعي الضمني للكلمة؟
والسوال الثاني:
لا شك ان الرسالة بين الاثنين هي رسالة بين عقل واعٍ واخر يماثله، وبالتالي فاذا كنا نقول أن الوعي هو دليل الحياة الجسدية فعلينا هنا أن ننظر بان الرسالة المنتقلة عبر فيزياء الأرض هي دليل على أن هناك وجود حياة بالكوكب (شاملة بذلك الميكروبات، النبات، الحيوان، اذا ما قارناها مثلا بالمريخ وزحل.
في المريخ مثلا، لو افترضنا ان اثنين من رواد الفضاء قد أقاما وجودهما هناك. فان التواصل بينهما سيكون عبر ماذا؟
اذا كان تواصلا مباشرا عبر هواء المريخ ذاته فهنا امكانية الحياة متحققة وإن لم يكن ذلك فلا شك أنه لا يمكن تحقق الحياة الكاملة بهذا الكوكب عبر بطلان أول اشتراطات الوجود الحي التي ننطلق منها ، لأن التعبير حينها نفسه مفقود، وهذا يعني ان الوسط الفيزيائي قد فقد امكانية التواصل الطبيعي وسنحتاج تواصلا صناعيا عبر أدوات تقنية لإحداثه وحينها سنقف امام حقيقة أننا عاجزون ايضا عن تحقيق الحياة لاننا ايضا لا نستطيع خلق حياة موعى بها عبر الأسلاك.
إن ما يتجلى هنا هو نظرتي نحو الحياة بالمريخ والبحث عن أدلة حياة ممكنة مثلا الماء، ولا شك إن الماء مصدر حيوي مهم، لكننا هنا نناقش امكانيات الحياة ليس بصفتها امتدادا لحياة سابقة أوجدنا بها (كما هي نظرية الخلق) أو تطورنا فيها كما يدعي داروين ومدرسته، فمن خلال التأمل الدقيق نجد أن الاتجاهين يصبّان ويشيران إلى أن الإنسان جاء للكون وقد سبقته حياة جاهزة بكل اشتراطاتها وادواتها وقوانينها وكائناتها، وأما بالنسبة للحياة بالمريخ مثلا فنحن هنا نبحث في مكان جديد عن إمكانية قابليته للحياة، إننا هنا ننظر للمشهد كأول الوافدين ولسنا كآخر من جاء على عتبة المسرح.
إن التعبير ليس مجرد تواصل بين اثنين من البشر، إنه البرهان المؤكد على أن الحياة ممكنة لمختلف الكائنات في هذا الكوكب، وأن الأشكال والأنواع المختلفة من حيوات تحيط بنا فيه، أعني الأرض إنما إثبات صحة وجودها الأول هو عبر (التعبير الذي نستطيعه) لأن أشد أنواع الوجود تعقيدا حيويا يكمن في أننا نحن ، البشر قادرين على التعبير اللغوي، وهكذا فكل وجود دون ذلك ممكن وقابل للتصديق ، وبما أننا نريد الذهاب للمريخ فإننا أيضا إذا استطعنا التواصل المباشر بين اثنين من رواد الفضاء دون الحاجة لأجهزة وعتاد نكون قد اثبتنا إمكانية تحقيق حياة مستقبلية، بغض النظر عن التحديات الصعبة جدا مثل إيجاد الماء وتوفره، فهنا من البداية نحن نفكر من الأعلى، من أعلى درجة من درجات الحياة في الوجود المتمثلة بالتعبير لكوننا بالاساس ذهبنا لكوكب لا حياة فيه الآن، وهكذا ينبغي النظر من فوق لا من تحت، أي عبر البحث عن الماء ونمو البكتريا بالانابيب وغيرها.
تخبرنا ”ناسا“ بأخبار عن المريخ، وتلك الأجهزة التي تلتقط صورا فيه، ولكن بلوغ الإنسان نفسه للمريخ مازال في طور فلسفي وخيالي، وليس الماء الذي علينا البحث عنه بل إمكانية التعبير، من خلال الصوت بين اثنين أحياء، ولاستحالة هذا الأمر بالوقت الراهن فلا مانع، من صناعة مركبتين أو جهازين مزودان بقدرة صوتي للتكلم بجمل ورصد ما إذا كان الطرف الآخر قابلا لالتقاطه دون سلك أو بموجات تختلف عن الموجات الصوتية البشرية لضمان أن إمكانية التعبير أولا ممكنة ثم بعد ذلك لو أثبتنا الإمكانية أصبح من الممكن الحديث عن ”الماء“ وغيره فكما أسلفت نحن نقفز على كوكب لا تظهر فيه معالم حياة ولسنا في عالم الآرض حين سبقتنا الحياة، لذلك فالتعبير الذي يمثل أعلى مستوى تصل إليه الحياة كأيقونة وجودية لابد أن يكون هو بدايتنا، من ”فوق“ إلى ”تحت“، من ”الكلمة“ إلى ”الماء“، وبالتالي فإن استراتيجيات تتبع الماء، االمهيمنة على “ناسا”1 ينبغي قلبها كما كأننا نقلب هرم ”ماسلو“ الكوني،
يجدر الآن أن نتحدث بعمق في تلك المقاطع التي تبعث بها ناسا للجمهور عما هو مرصود من صور في كوكب المريخ نفسه، وما هو صوت في مقاطع فيديو قدمتها، وهو الأهم لدينا، فوفق ما نشرته ناسا للمرة الأولى في عالم الفضاء واستكشاف الكواكب فقد نُشر تسجيل أصوات مسموعة للأذن البشرية (على كوكبنا الأرض) من سطح المريخ على آداة رصد supercam في العربة Perseverance التي هبطت في فبراير 2021 م.2
ما نشره العلماء في ورقة علمية موقع nature بعنوان ” أول الأصوات من المريخ“3، يشير إلى أن الأصوات المسجلة تقع داخل النطاق السمعي البشري (تقريبا من ٢٠ هيرتز إلى ٢٠ كيلو هيرتز) ومع ذلك فإن صعوبة وجود كلمة وجُمل مسموعة مازال مطروحا حيث اكتشفوا أن هناك سرعتين للصوت، فالترددات الاقل من ٢٤٠ هيرتز ستكون سرعتها ٢٤٠ م/ث، في حين الترردات الأكبر سرعتها في حدود ٢٥٠ م/ث كما ان هناك حصائص فيزيائية مختلفة للصوت عن الأرض ومنها آن شدة الصوت أكبر بكثير منه في الأرض خصرصوصا للترددات العالية التي تتلاشى سريعا بمسافات قصيرة، أما الإشارة الصوتية الناتجة عن نفس المصدر الفيزيائي تكون على المريخ أضعف بنحو 20 dB تقريبًا مقارنة بالأرض؛ أي أكثر خفوتًا بكثير في الأذن البشرية،
وقد أشار بيان صحفي رسمي صادر من فريق فرنسي-دولي بتاريخ ١ ابريل ٢٠٢٢ بانه من الصعب على اثنين ان يتبادلا الحديث إذا كان بينهما مسافة خمسة أمتار فقط، مما يشير إلى صعوبة التخاطب علما بأن هذا التصور افتراضي على وضعنا بالأرض ولا نعلم ما الذي سيكون تحديا اضافيا لانتقال الصوت بين اثنين متواجدين فعليا في كوكب المريخ.
لنضع فرضية ممكنة علميا لإثبات أولا آنه بوسعنا تحقيق تواصلا بين عقلين، ولنأخذ مرحليا العقل بصفته المعبّر عنا بالفلسفة الوظيفية لهيلاري بوتنام ليكون هو ما نعنيه في حديثنا عن العقل حيث أن الحالات الذهنية (مثل الألم، الاعتقاد، أو الرغبة) لا تتحدد بـ “مما صُنعت” (تكوينها البيولوجي أو الفيزيائي)، بل تتحدد بـ “ما تفعله” (وظيفتها) بعبارة أخرى، الهوية الجوهرية للحالة العقلية ليست في المادة التي تتكون منها (سواء كانت خلايا عصبية، رقائق سيليكون، أو غير ذلك)، بل في الدور الذي تلعبه داخل النظام المعرفي للكائن4، وإذا اعتمدنا على هذا النموذج تسنى لنا الآن تجاوز فكرة الشعور الذاتي والكواليا (الخبرات الذاتية) لنركز على الرسالة (كالمات والجمل) التي من الممكن أن تكون بين ”روبوتين” أو جهازين نبعثهما للمريخ ويكونان مزوَّدين بأدوات صناعية لبث صوتيات مسجلة في أحدهما على أن يكون الآخر حاملا لاداة التقاط صوتية بمجال سمعي محدد يسبه تماما المجال السمعي البشري، ونقوم بتزويد الجهازين بذكاء صناعي لتطبيق وظائف تواصلية، فإذا قال الجهاز الأول الجملة المعدة مسبقا فيه للجهاز الآخر، سيكون إثبات سماعه لها هو قيامه بالمهمة المحددة مسبقا من ضمن عدة مهام أخرى، وحينها إن حدث ذلك ثبت أن الكلمة قد قيلت ورٌصدت سماعيا، وحينها ثبت أيضا أن فيزياء المريخ حققت أول اشتراطات الحياة لا “الماء” أعني بل “الكلمة”.
عبر تلك الفرضية السابقة التي من الممكن حدوثها مستقبلا سيكون هنا تحدٍّ أخر أمام الحياة ألا وهو الوعي وهل انتقال الرسالة بين الجهازين يحقق اشتراطات الرسالة نفسها بين عقلين (لهما خصائص وعي ندرك أننا لا نعلم للآن ماهيته) ولإجابة مثل هذه نحن بحاجة لافتراض وجود رائدين فضائيين هناك، وحينها:
- اذا انتقلت الرسالة بين الاثنين كما انتقلت بين الجهازين فنحن هنا نثبت أن الوعي لا يحتاج خصائص إضافية له في الفيزياء الكونية برمتها لانه قابل لادراك المعنى ونقله عبر فيزياء المريخ والجمل المقولة بين الطرفين
- اذا انتقلت الرسالة ولم يفهم الآخر ما معناها سندرك حينها أن ثمة خصائص واشتراطات فيزيائية (غير معروفة) متوفرة بالأرض لا بالمريخ مما يعني أن الحياة بالأرض ليست كما نتوقعه مرتبطة فقط باشتراطات الاكسجين والماء والطقس والمناخ والتضاريس إلخ بل أيضا هناك اشتراطات لخصائص وعي متوفرة بالأرض لا بغيرها.
في الختام، قبل أن نخوض في رحلة البحث عن الماء، علينا أن نفكر بالكلمة والمعنى، فهذا التكوين الفيزيائي -العقلي هو تكوين حيوي يشير للحياة ذاتها ويؤكد الشرط الوجودي الأول في إمكانية كافة أشكال الحياة للكائنات الأدنى وبالطبع لا ينفي بقية الشروط الأخرى فاستراتيجيتي المفترضة هذه في اختبار قابلية الكوكب للحياة تنطلق من أن اللغة ذاتها هي أعلى ما نعرفه من بنية تنتجها الحياة، ولأننا نريد القفز على كوكب جديد نظهر فيه نحن كأول الوافدين لا كآخرهم كما حدث تقريبا بالأرض ، علينا أن ننظر من أعلى، من الكلمة قبل أي شيء آخر.
عصام مطير





