
تَحَصَّنَ بِرُكْنِهِ الحَبِيسِ، يُحَدِّقُ إلَى المَشَّاةِ… إِلَى العابِرِينَ… إلَى السَّالِكِينَ وَإلَى قطارِ العُمْرِ.
مُغَبَّرُ الفِكْرِ، مُطْلَقُ العِنَانِ، يُخَاتِلُ سَاعَتَهُ بِانتِظَامٍ… ويسرحُ بخياله الحَالِمِ بَيْنَ المَحِيطَيْنِ.
تَرْصُدُهُ العُيُونُ حَيْرَى، وَكَلِمَاتُهُمْ تَلُوكُهَا شفاههم… لِيَصْطَفُّوا بَعِيدًا عَنْهُ…
خَانَهُ زَمَنُهُ، فتراكمت حَقَائِبُ همومهِ فَانْحَنَى ظَهْرُهُ، وصفحات جريدته المَلْفُوفَةُ تُثِيرُ المَشَاعِرَ…
شَعْرُهُ المُتَشَعْشِعُ يُمْنِحُهُ بَرِيقًا مِنَ الوحشةِ، أَوْ رُبَّمَا رَأْفَةً وحسْرَةً…!
آهٍ مِنْ تلك العُيُونِ سَخِيَّةِ العَطَاءِ، آهِ لتلك الرُّؤَى المُتَكَدِّسَةِ حَوْلَهَا…!
آفاقه تحوم بين الوجوه، يبحث عن تذكرة المسير، وتشتته باقة الانتظار.
مَقَاعِدُ جِيرَانِهِ فَارِغَةٌ… الجميعُ يُسَافِرُ، فَتُقْعِدُهُ أَصْوَاتُ الأَمَلِ عَلَى السُّكُونِ…
إِرْهَابِيٌّ تحاصرُه ويلاتُ الهجران، يفتُكُ به اليأسُ فيطمئن لى قنوطه…يَتَعَهَّدُهُ بمزاجِ المُنْتَصِرِ…!
وَهُنَاكَ طِفْلَةٌ تُرَاوِغُ عَوَاطِفَ أُمِّهَا، تَقْتَرِبُ مِنْهُ، تُلْقِي عَلَيْهِ نَخْوَةَ التحية، تُرْسِلُ لَهُ عِطْرَ الحَيَاةِ.
ابْتِسَامَتُهَا الخَجْلَى يَعْقُبُهَا أُنْسٌ بَرِيءٌ، فَيَسْتَظِلُّ بِدِفْءِ يَدَيْهَا، وَتُعَانِقُهَا تِيجَانُ الإِنسَانِيَّةِ، فَتَصُومُ الوُجُوهُ الشَّامِتَةُ عَلَى مقبس الدَّهْشَةِ…
أَوتارُ الحياةِ تَشُدُّ مشاهدَ الوُجُومِ، وذاكَ الرَّابِضُ على المَقْعَدِ وَحِيدًا يَبْتَسِمُ.
يَرَى ومضَاتِ البَشَاشَةِ تُحَدِّقُ فِي أَشفارِ العُيُونِ، يا لتلْكَ البراءَةِ عندما يَسْتَطِيبُ العَطَاءُ، يَا لندى، تساقطَ بَعْدَ جَفَافِ الحَنَان…
يُقَبِّلُ يدَيها بعفوية الأُبُوَّةِ، ويمسح على رَأْسِهَا بوداعة الضَّمِيرِ، فَتَهْمِسُ بكَلِمَتِهَا لِتَفْتَحَ أَوْكَارَ حقِيبتهِ، فَتَنْمُو ضِحْكُتُهَا عَالِيًا…!!
يَسْتَفِيقُ الذُّهُولُ مِن بَرَاثِنِ الانْكِسَارِ، وتلتقى النَّظَراتُ لِنَبْعِ الابْتِسَامِ، وغرابةُ المَقَامِ تمنحُ سَلَامًا أَبَدِيًّا، وَالسَّمَاءُ يُغَالِبُهَا الوَفَاءُ، وَأَنوارُ الشَّوَارِعِ كَسْلَى.
وَكُلُّ الأَلْوَانِ حَدَّقَتْ…
وَكُلُّ القِطَارَاتِ تَوَقَّفَتْ…
وَكُلُّ المَسَامِعِ صَمَتَتْ…
وَكُلُّ المَبَانِي أَنْصَتَتْ…
لِطِفْلَةٍ تَبْعَثُ أَمَلًا… لِطِفْلَةٍ أَوْقَدَتْ بَهْجَةً فِي جسدٍ تَرَاءَى كَإِرْهَابِيٍّ…
لِطِفْلَةٍ مَخَرَتْ عُبَابَ الأَحْزَانِ، وَعَزَفَتْ بِفَخْرٍ سِيمْفُونِيَّةَ الحَيَاةِ…
مَحَطَّةُ قِطَارٍ تسامَتْ لِلَحْظَةِ بُكَاءٍ، لِلَحْظَةِ عِنَاقٍ،
لِلَحْظَةِ طِفْلَةٍ تَقَاطَرَتْ بَسْمَتُهَا لِتَرْوِيَ قَلْبَ “إِرْهَابِيٍّ” يُجِيدُ أَدْوَارَ السُّمُوِّ وَالعَفَافِ…
أحمد الصوافي




