عن الكتابة ..

تبصرُ صغارُ الطيور ما يقوم به الجناحان عند ذويها وهي مجبولةٌ حينئذٍ على أن تنتفض على هذا العجز الذي يتضاءل مع نموها وبالقدر الذي تحافظ فيه على بقائها حيةً تكبرُ إمكانية أن تتخذ الهواء مسافة للشعور والهوية، وعادة الطير أن يطير وأما عادة الإنسان المماثلة فلن تكون سوى التعبير.
إنَّ الموقف، من الأشياء هو الموقف من الذات ورغبة النمو الجامحة محاطة بالقدر الذي نحافظ فيه أيضًا على بقائنا، لكن هناك شيئا إضافيا لدينا عن الطير، ألا وهو الوجود وما يقتضيه تفكيرنا في المعنى الخاص بنا، إن كان على هيئة الشخص الذي هو الفرد في المجتمع أو ما أعده الإنسان الذي أعني به الفرد في ذاته، وما يدور بين الطرفين من نزاعات واتفاقات لكن الإنسان بالطبع لا يلج إلى الواقع إلا عبر تعبيره الممزوج بطعان الشخص ونزعات المجتمع، وهذا دور اللغة في إبرازه وخصوصًا حين الكتابة ومن الممكن استشفاف ذلك بمجازها وخيالاتها المتاحة التي لم تكن سوى ذلك القابع في الأعماق المنتفض على عجزه والمحكوم دائما عليه بأن لا يصل.
إنَّ الكتابة قلقٌ غريقٌ، إذ أن انتهاج التفكير عبرها يلطف مأزق البحر بزورق الكلمة ويدع كل تلك الاضطرابات تغرق ولو مؤقتا أو تزول عن ناظريّ، بالتعبير عنها،ولربما كان ذلك أيضًا فرصة لي لمعرفة وجودي عن قرب، وهو الأمر الذي يختلف فيه الناس، وفق ظروف العش الذي ترعرعوا فيه، وبالنسبة لي إنني أجد للتعبير أثرًا مضيئًا في نفسي حين أناقش أفكاري وأضعها تحت مجهر الكتابة، إذ أنّني حال أن أكتب، أتكاثرُ في تأملي للكلمة والجملة والفكرة المراد قولها، وتأتي عشرات الأرواح تناقشني صحة ما هو مكتوب لغةً وإيقاعا ومعنىً وواقعًا وما ينبغي ذكره وتقوية جانبه أو هدمه والانقضاض عليه، وهذه النقاشات تحييني وتثير وجودي.
إنَّ الكتابة هنا ليست إخبارًا وإعلامًا عن موقف أتبناه بل هي تفكير يطلب المزيد منه، ليحررني من رتابة التقليدية وجمود الجدران المحيطة وبقاء المدينة على حالها بلا ذكريات جديدة، وبالتالي تأتي حقيقة الحياة دومًا من خلاله أي عبر هذا التحرر الذي لا يعني إلا التجدد وإيجاد الجديد، والإيجاد هو السعي مع الأمل والخلق مع القدرة، وهذا ما تفعله الكتابة عندي إذ أنني أمزج بين مختلف ما مررت به لأنشّط ذاتي الواحدة بالحياة، وأغادر كل ذلك الثبور الذي جاء على هيئة تكرار، ثم إن الفكرة عندي دوما ما تطلب مني موقفا داعما أو رافضا لها، والرفض هنا لا يعني قتلها بل تطويرها.
في قصص النظرة الأولى وما كان فيها من غرام ليوحي للمتلقي بأن التلقائية تحمل الكثير من الحياة على غير ما تفعله الحسابات الدقيقة،
فهذا الذي يحسب كيف يشكّل علاقة غرامية باشتراطات وظروف محببة، غالبا لن يجد من يشاركه إياها ولو وجد لعاش تجربة مغايرة عما كان يتصوره، فالحسابات تصح بميزانية الشركة وخطط الجدوى للمشاريع المادية أما بمسألة اجتماعية مثل الحب على سبيل المثال فإنه لا حسابات دقيقة، والأمر برمته وليد المكان والظرف، وشيء من التوافيق، ومقاييس خاصة للجميل والجذاب عند كل طرف، وبالتالي فإن التلقائية هنا بكونها تربةً خصبةً لمعرفة الذات ستكون أدق من الحساب والتفاضل والتكامل.
بالكتابة عندي يحدث غالبا الأمر ذاته، فهي ليست وليدة التخطيط، ولا الحسابات، بل النظرة الأولى، فلنقل عنها الإلهام في أوج نشاطه بعد انقطاع، ومن ثم علي أن أستحضر دهشتي وحيرتي وأُمعن النظر في الصراع الدائر بين الأفكار، وأُجري عملية التفكير باستقلال وحرية، إنني أصغي حينها للإنسان، وأعي جناحيه المنتفضتين وثقل الواقع أي الشخص الذي أعيشه.
ليست الأفكار بعد ذلك سوى مرحلة قابلة للتطور، وهذا أمر حتمي إلا أن بعضها يكون ثابتًا بناءً على قربها من الطبيعة والحقيقة بعيني أو رغما عني، ويغدو الإنسان الذي يتسلل في كلماتي هو المتغير بين السطور أو الممعن بوجوده فتارة أفهمه وأخرى يتوه مني لكن علي أن أعترف بأن مواجهة الذات (التاريخية) أمر ليس بالسهل كتابته (أي التفكير فيه بالتعبير عنه) حيث أن السياق الخارجي خطير ودوما يعيش أزمة الانتماء والهوية وما نزعم أنه تلقائية محكوم هو أيضًا باللغة وما تستطيعه الحرية من وجود.
ماذا تعني الكتابة؟
تعبير جاد عن الوجود، إنها وسيلة الكيانات والذوات أيًا كانت لإثبات حقها بالوجود في عالم البشر. من الممكن إدراك ذلك في خضم كل هذه الحضارات، والمجتمعات، بيد أن الكتابة الأدبية وحدها ما يمكن القول عنه موقف فردي خاص، يبرز فيه ما لا يبرز في غيره، حتى هذه المجازات التي نراها بالشعر تحديدا ليست سوى رمزية عميقة تتجاوز الشخص الكاتب معبرة بأعمق ما فيها عن الإنسان المنتفض.
عصام مطير