آراءآراء فلسفية

حداثة وعي !

مهمة النظرة الأولى في اقتناص المساء من عينيك عانقتها مفاجأة الانتباه واليقظة وذلك الحذر الشديد الذي قفز من شعورك نحوي متقمصًا شجاعة الرئبال.
يحكي الإعجاب في طياته قصة الجديد والرغبة في طي الماضي أما ما نعده تجاهلا فليس سوى مساحة من الدوران ، تبدأ بأسئلة تقليدية بماذا وكيف ومتى وتنتهي بغض الطرف والابتعاد ، وما أن تنقشع غيوم هذه الرداءة أفكر بامرأة تنتشلني (تُحيي جميل بثينة وكُثيّر عزة ومجنون ليلى بي) ، ولقد انتبهت أنني حينها أعيد دوامة الأسئلة مرة أخرى (كيف وماذا ومتى) . إنني أتقدم ، ربما ، لكن شيئًا من الحديد يعبث بأعصابي، لم أكن يومًا له ، أهي العادة ؟.
لقد ظل فرويد فترة من الزمان يبحث في النشأة نشأة ظواهر الاضطرابات النفسية ، وقد اختزل معاناة الذات بماضيها ، (ما مر بالطفولة والعقد الأبوية) ثم نظريته بالكبت الجنسي ، الرغبات اللاواعية ، وهلم دواليك انطلقت جياد التفكير في مضمار ما كان ، وأن الآن ليس سوى ضحية لماض آثم ، هكذا تزود التفكير بسلاح يدافع عن بكائه أمام قافلة العمرواتجاهها للأمام دومًا بلا قدرة منا على “لا” ، إلا أنني أجد موقفي اليوم مما يصاغ عن الماضي ، في علو عن ورطة اللوم والتأويل المتعسف (الاتجاه بكل معضلة نحو الجذور والطفولة إلخ) فالمرء ليس إلا تزامنًا مستمرًا مع القالب الاجتماعي / المكان / الثقافة / القدرات الجسدية ، بالإضافة “للحياة” ذاتها التي هي وعي بالجديد وإلا فلا معنى لها ، وهنا يأتي النسيان بوظيفته التجميلية في كوننا نعيش ونشعر بحياتنا ونولد من جديد.
إن الغرابة القاتلة ، في عيني ، تتجلى بالتكرار المقيت ، والدفاع عن صنف الإشارات والتنظيمات وإطلاق ألقاب المجد والعقل والحكمة على الهدوء البارد الممل ، وذلك الإذعان الذي على من تقدم عمره أن يلتحق به ويدين ليتلاشى كتلاشي الذات عند بوذا .
إنه في المسافات الطويلة تصبح فكرة الحركة غير ممتعة وأرى كما يرى أي شخص مفعم بالألوان والأمواج والطقوس المكتظة بالتقلبات ، أن الحياة هي المفارقة ، والشاعرية هي المنعطف ، وأن الجهل ، الجهل الذي يشتمونه ليل نهار “عباد الحديد والأسمنت” يحمل في طياته الجمال ، ونداء الشعور الذي لا يموت وأما الغرابة في كل ذلك يمثلها التوقف أن يُحتجز المرء عن التعرف على ذاته لا أقصد المعرفة ذاتها بل العملية التي من خلالها نعرف ونكشف ونعود ، إنها العملية التي تشترط أن يكون ثمة جهل نغادره لكنه لا ينضب ولا يشعرنا بكوننا قد تقدمنا للأبد أو للمدى الذي يكفي.
لقد أبلغتنا ظاهرة الشعر عن كل ذلك ، فتحريك اللغة ، مفرداتها جملها ، في مسارات جديدة وعلاقات حديثة يوضح ما تشير له الحياة من معنى عميق ، وإن كان هذا المعنى ذاتيا وخاصا لكل امرئ منا لكنه بالتواصل يصبح عامًا مع فقدان جزء خفي من مساحته الضخمة ، فالفرد حين تقدمه بالعمر يزداد عليه التكرار غير أنه ينال جديدًا في أروقة متعددة أضيفت عليه أو اندفع إليها بحثًا واستكشافًا، إنه بوجود الآخرين سيجد حياة/حداثة بالشعور لكنها مع المضي تنخفض إلى أن تأتي لحظة الرماد المتمثلة بالزحام مثلًا أو لغة العلم الصارمة ، أو قمعية المجتمع المختزل للحياة بالعدد/المال/الامتلاك وإغراق الذات بما لا يسمح بأن يكون المرء طبيعيًا ، أقصد أن يشعر بما يشعر به شخص (يقال عنه بدائيًا) واقف أمام تلال تحيط بغدير ماء ، أو بما يفكر به طير على غصن شجرة برية ، أنجاها الله من طمع المدينة .

الشعر / حداثة وعي

يقول الناقد والشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه : (الشاعر لا يصنع الأبيات الشعرية بالأفكار بل يصنعها بالكلمات) .إن هذا القول يحيلنا نحو النظر لمستوى العملية الإدراكية لمفهوم الشعر ، فهو هنا يعني به النص بين كاتبه وقارئه ، وبالتالي فهو نسق اللغة تواصلًا لا الأفكار وعيًا ، لكني أريد النظر للشعر في ذات الشاعر ، أي قبل تحوله إلى الآخرين بماهية العلاقة ، وهناك تأخذ الألفاظ وجودًا خاصًا عند الشاعر مرتبطًا بغرقه في فكرة واحدة (بعاطفة محددة) سرعان ما تتجذر وتتوالد ، وهو فرح بكونه يغرق ، ويتحرر بالوقت ذاته من انزعاج ما ، فالكلمة التي تأتي وهو ينظم (أي يقرأ ذاته ويرتبها) عادة ما تكون جزءًا من عبارة ، هي معنى يُلقى عليه (من ناحيته حين الإلهام) لكنه فعليًا (هو من اتجه إليها ووجدها في أعماقه) فالتفكير منذ الطفولة ارتبط بالتسمية ، فالأشياء خارجيًا هي الكلمات داخليًا بالتزامن مع الوعي بها ، حتى أن الإنسان نفسه عند بعض الحضارات القديمة ليس سوى نفس وجسد واسم ، ولو أقمنا التأمل بدقة في عملية النظم فإن الشعر في شقه اللغوي هو النص (المسألة الفيزيائية) لكن هناك شق معنوي/روحي/نفسي بالذات ومن ثم فالشعر في ماهيته أكبر من كونه لغة متمردة أو انزياح بل هو حداثة وعي ، انتباه كبير لجديد يشعرنا بالحياة وهذا ما يدفع بالتزامن لصناعة الاستعارة بالشعر وبناء القصة المختلقة والقفز باللغة من منطق القاعدة الثابتة لأشكال قد تتضمن قواعد جديدة. إن الكلمة تأتي خلال النظم هي وعيٌ يتدرع باللفظ أمام التوغل بالعمق الذي اعتاد أن يكون خفيّا عنه وإذا به يكشف عن جديده الثائر على الخفاء وبهذا فهو وعيٌ بالحياة ليس بالجديد خارجيا إنما بالجديد في عمق سحيق وحينها يكون الوسيط الموسيقي (الوزن) هو الأمان من تحطم الإدراك والقواعد ، فالتغني حين النظم هو المحافظة على ”المنطق“ العقلي باستيعاب الجديد الذي جاء أو جيء إليه داخل الذات ، ويصبح النظم حينها معبرا عن صوت الشاعر والألفاظ التي تُقذف لتتناسب مع الوزن صوت المقاوم للتحطم في الوعي الذاتي.
ثمة استدراك آخر بسيط ، على قول الشاعر الفرنسي السابق، فللأفكار شاعريتها خارج النص ، قد لا ألومه لكونه شاعر الرمزية ، إلا أن إنكار التأثير الجمالي للأفكار هو إجحاف لها ، فالشعر بالنهاية ذات مثارة قبل أن يكون نصًا ، والذات لا تنفك عن أثر الفكرة.

طفولة ذات

إن صناعة الشعر بالمجمل ، تعتمد على الاستجابة للتوهج العاطفي وما يلازمه من تفكير في الجزئيات ومفاقمتها ، وهي مع كونها امتثالًا للذات ، تلاعبٌ في علاقات الأشياء للتعبير ومنح الشعور لغة خاصة.
و تتطور قدرات الشاعر/الأديب مع ممارسة لعبة العلاقات وصناعة الخيالات بكسر الروابط ، والتطور (موهبة وجهد).
إن مهمة الشاعر المبتدئ ، هي مهمة الطفل باكتشاف العالم ، إنها معرفة (إيقاع الألفاظ ، دلالاتها ، معانيها ، والألاعيب الممكنة في علاقاتها بالجملة)، ثم بعد ذلك التعرف على الجمل والسياق وتطوير آلية الشعور الجمالي ، التخييل ، ودقة الربط بين ما يريد قوله وما قاله بالفعل ، وكذلك نمو الأسلوب و مع مضي الوقت هناك تزامن بين الفكري والشعري ، لأن الشعر ليس فنًا شكليًا ، إنما هو بالنهاية تعبير عن معاني بطريقة خاصة ، ولهذا فالفروق بين الشعراء ، يدخل فيها القضايا التي يتبنونها ، وقدراتهم العقلية بالإضافة لقدراتهم الجمالية والطربية (المكتسبة من الخبرات والتجارب أيضًا) لكن الجديد على كل ما هو مذكور سابقا ومعروف بالأوساط الأدبية ، إنه التوغل أو الكشف للخفاء المجهول بالذات وبالتالي الانتباه للحياة والتلذذ بكوننا نعيش ، إنه كما أسلفت حداثة الوعي ، وهذا الانكشاف للجديد من الأعماق قد يكون أهم الفروق بين الشعراء ، من خلال الحجم الممكن والطرق المستخدمة ، والعملية كلها تكشف عن حالة الطفولة التي يسعى لها الشاعر في ذاته فهو خارجيا لم يعد طفلا فالعالم الخارجي يبصر فيه النضج الكافي الذي يأخذه حتى في تعامله مع اللغة ومواضيعه الشعرية وتجاربه التي يتحدث عنها لكنه في أعماقه التي يتوغل بها طفل يحبو ويكتشف عالمه الخاص ، بأخطاء اللغة والتفكير ومفاجأة المنطق المهدوم الذي لا يستوعب كيف هو ، هناك ، علمًا بأن هذا الاكتشاف لا يعني مواجهة الكبت أو العقد النفسية التي سبق وأن عرفها ، بل هو أعظم من ذلك إنه الاتجاه نحو تحقيق المبدأ الوجودي الكبير ”أنا داخل العالم ، والعالم داخلي“ وبالتالي فإن العالم الخفي يحمل ما لم يمر به الشاعر من قبل ، وقد حقق بذلك الوعي الحياتي ، حيث يكون الجديد أو التحديث إشعار بكونه يحيا وأما اللغة فقد تماهت مع القالب والسياق الجديد الذي منحها حرية الحركة وتغيير المسار ، وهذا يصب بالنهاية إلى كون الشعر مستويات متعددة حين النظر إليه ، الشعر بصفته نصًا بين طرفين متمثلا باللغة والشعر بصفته طفولة ذات توغلت بالأعماق لتشعر ببراءتها ولذة اكتشاف الجديد بالتزامن مع التأثير الخارجي للإلهام والمؤثر .
للحديث بقية…

عصام مطير

الرسمة الملحقة للفنان الفرنسي كلاود مونيه

4 1 vote
تقييم الأعضاء

مقالات ذات صلة

Subscribe
Notify of
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض