مدخل للوجود الشعري
لن أبحث عنك ، هي المهمة المؤذية والوجع الخفي الكبير الذي تشكلت منه الشاعرية العظمى في قصص العشاق ، وإن تخفّت بين السطور وبرز جانب الشوق والبكاء على الأطلال ونزعات السعي للآخر ، فلحظة التحطم التي تعني نشوء مسافة غريبة بيني وبين من أحب ، هي بداية الصراع بين أن ألتزم بوجود لا أراني فيه وبين وجود أحافظ فيه على أنفاسي التي مهما قاومتها سترغمني على أن تكون ، وبهذا فإن مقاومتي للفراق إن لم تجد عند الآخر يدًا وذراعًا مآلها الثبور وسينمو بداخلي رويدا رويدا كل ما علي فعله لكي لا أبحث عنه ولا أكترث بكل ذكرى جميلة بيننا ، ويا لها من مهمة شاعرية .
كم هم أولئك الذين لا أبحث عنهم ؟
على صعيد الحياة كثر وأما بالعشق فواحدة ، لكنهم جميعًا رحلوا بطريقة ننازعك ونتقاسمك لتضمحل وتتلاشى بالنصوص ، وقد راق لي أن أخلد الأثر وأذوب في الظلال.
جادت الكتابة بفكرة الخلاص المؤقت ، من خلال الاستناد على الخيال ومنحه معنى ، ولم يكن هذا ليحدث لولا مأساة الصراع بين نزعتين متحاربتين ، الواقع الآن في كفة ، وما كان سابقًا أو ما ينبغي أن يكون في كفة أخرى ، وبهذا فإن سطوة الخيال تعبير عن رفض لهذا الواقع إما بتسلط الذاكرة أو الرجاء ، وفي لحظات التحطم تلك التي تلامس ذواتنا ننتزع وجودا جديدا من هذا العالم ونصنعه بالكتابة ، وجودًا يمثل الانطواء الخلّاق ، العالم الذي يسعني أنا فقط، وللوحدة معجزاتها في ذلك المستوى الذي يختبئ به الأديب أو ينفرد بكونه المواطن الوحيد بالنص الذي يكتبه ، وبتراكم محاولاته بالاختباء تبشره اللغة بلذة الإبداع التي لا تنقطع.
لقد تعلمت من الوحدة ، أن العقل بأصله وبمعظم أعماله هو كتلة ضخمة من المشاعر التي تحولت بفعل الزمن ، لطريقة تفضيل أو نبذ ، لما نمر به ويمر بنا وإنه لا يوجد فكرة واحدة نفكر بها غير ممزوجة بشعور وإحساس إزاءها ، ويبدو بالنهاية أن آلية عقولنا ، تعمل من خلال ماضينا وهذا المعنى وجدته أيضًا بأسلوب آخر عند ديفيد هيوم بقوله
“من الملاحظ أن الخيال والعواطف لهما رابطة وثيقة معًا وأن لا شيء يؤثر في الأول يمكن أن يكون محايدًا تجاه الثانية ، وكلما اكتسبت أفكارنا عن الخير والشر حيوية جديدة فإن العواطف تصبح أشد عنفًا وتماشي الخيال خطوة خطوة في كل تقلباته”
ديفيد هيوم
إنني أرى النزعة الشاعرية/الميل للأدب ، قادمة من عجز المرء القهري على تمضية الوعي خارج نطاق التفكير بذات المرء بدءًا وهذه آلية النشوء الخيالي وربطها بالمعاني بمنح اللغة مسارًا لتصب بالداخل ، فوعينا/ إدراكنا وأعمالنا العقلية تعمل من خلال محيطنا وما نشعر به إزاء ما به ونحن لا نستطيع أن نجعل الوعي يعمل بلا آخر يجري فيه ويختبره ، فلابد أن يعمل خارج وجوده هو أو كما يقول هوسرل كل وعي هو وعيٌ بشيء، وبالتالي فإما يعمل بالخارج أو يعمل بالذات ومشاعرها أو بهما معًا.
إن تدفق الوعي ويقظته عادةً ما يكون خارجيًا ويتخلله الأعمال النفسية الأساسية ، وقد يتجه نحو التفكير النفسي وإدراك المشاعر ومفاقمتها حين يضعف الوجود الخارجي كما يحدث لدى السجناء أو المغتربين وغيرهم
والناس عمومًا بمقادير توجّه الوعي وتدفقه وحصص المحيط والذات ، أي الشعور والمشاعر إزاء ما يجدونه به مختلفون، فالنزعة الشاعرية عند الأدباء والرسامين إلخ هي نزعة قهرية إضافية بالذات تدفع الوعي لمنح حصة الشعور الذاتي قيمة أعلى من حصة التركيز بالمحيط،
وقد تكون هذه النزعة مكتسبة أو علة مرضية ، وتأتي الوحدة بالنسق الداعم للاكتساب لإبراز هذا الجانب الشاعري وتأكيد صحة الاستتنباط فالذين يعيشون فترات طويلة بوحدة/عزلة يرون أن مشاعرهم تتضخم وعواطفهم تكبر والسبب بذلك أن حصة المحيط انخفضت بفعل الوحدة فيقوم الوعي بمنح حصة الشعور والمشاعر زيادةً ليكتمل نصاب عمله ووجوده ويعمل الضد أيضًا على إثبات صحة الاستنباط
فالاجتماعيون الذين يكثر بحياتهم الأحداث والناس والأنشطة الاجتماعية ، يكونون أقل شاعرية من غيرهم لأن حصة المحيط ازدادت ، وانخفض مقدار حصة التفكير بالذات ومشاعرها وبالتالي نموها وتدرب الخيال على الارتباط بمعاني وألفاظ وجمل
وبعد هذا ينبغي أيضًا أن ننتبه بكون الشاعرية في بنائها حركة ضد سلطة الذات فهي قادرة علي إنتاج النصوص بالشعور القادم من الأشياء بعيدًا عن الجسد ، ذلك الشعور الممزوج بالأنا الخفيفة جدًا لتقوم آلة الشعر بمنحها هوية أخرى وهذا المستوى يكون عند بعض الشعراء الحاملين لشاعرية كبرى حيث النظرة للخارج ليست سوى تسلط نفسي للتأمل المثير للخيالات المتضاربة والمترابطة ليبحث الشاعر عن نفسه من خلالها ويعبر عن هذا الكامن بالأشياء، وقد يكون كل ذلك تعبيرا عن كونه لا يبحث عمن يحب بل بالاتجاه الضد .
أراكِ فتحلو لدي الحياةُ
ويملأ نفسي صباح الأملْ
،
وتنمو بصدري ورودٌ عِذابٌ
وتحنو على قلبي المشتعلْ
،
أبو القاسم الشابي
إنه الانعكاس الذي شع في ذات الشابي ، وأسس البيتين السابقين ، هذا ما يظهر للمرة الأولى لكن ماذا لو كان هذا النص تعبيرا عن رجائه ببقائها ؟ أو تعبيرا عن حالة الصراع بين ما يريده وما لا يريده ؟
فإذا ارتبطت حلاوة الحياة برؤيتها فما الذي سبق هذا الشعور؟ إنها المرارة وبما أن الشأن النفسي معقد بين أولئك الراحلين والقادمين ومع مزيج نفسي يلاحظ كل تغير كان الشاعر خير من يتكلم عن اضطرابه المزاجي ، إذ كل حركة لها أثر يعيه ووجود يسعى إليه، وهذا يذكرنا أيضًا ببيت نزاري :
طلبتِ منّي ثباتًا لستُ أملكهُ
أنا المهجّر طول العمر من ذاتي
نزار
لقد اختصر نزار قباني الشاعرية بهذا البيت الفريد ، من قصيدة هربتِ من زمني الشعري ، التي خاطب بها من هربت من تقلبات مزاجه وطقوسه وانفعالاته وقد شرح لنا ما تفعله الشاعرية به ، وحكى باختصار مأساتها
والشيء بالشيء يُذكر ، لتوماس إليوت وجهة نظر عن الشعر والشاعر تتناسب مع ما قاله نزار من كونه مهجّرًا عن ذاته
إن الشعر ليس انفجارًا للانفعال بل فرارٌ منه وليس تعبيرًا عن الشخصية بل فرارٌ منها لكن الذين ينفعلون ولهم شخصية هم وحدهم الذين يقدّرون ما هي الرغبة في الفرار من كل هذا.
توماس إليوت
لكنني أرى الشعر أيضًا مرحلة البحث في وجود ينفرد فيه ويصب معناه بأنني لا أبحث عن الآخر ، أن أتجاوز فكرة الوجود في عالم مكتظ بإثارات تأخذ من وعيي لغير التدفق بي ، ليشير ذلك نحو السعي لوجود خاص يمثلني تمامًا وتفنى به القيود والحرية ، عالم من صنف آخر ، أبنيه بنفسي وآمل أن يبقى لكنه الأمل الذي لا يتحقق لأنني سأعي أن عالم الشعر ليس لي وحدي بعد تقدمي في عالمه ، ومن جهة أخرى ، تأتي الكتابة الرديئة – بالبدء أو خلال المرحلة المتوهجة – فشلا في مهمة الرحيل والاكتفاء بالذات ، فالكتابة الرديئة لا تنطلق من الشاعرية بل من الاحتياج لها ، أن يحفر المرء في ذاته ليكتب ما يلقاه بعد عذاب طويل ، لأنه لم يجد دافعية “التلاشي وأن لا يبحث عن الآخر” تقوده نحو الوجود الذي يخلصه من كل هذا الغضب من العالم المزدحم ومتى ما ظهرت تلك النزعة أو توهجت من جديد عاد يمتطي الخيالات وترعاه الشاعرية.
إن للانعكاس ، أثر في تكوين الصورة ، وبالنسبة لنا فإننا أشد تعقيدًا من عالم التصوير الآلي ، ونملك في ذواتنا آليات تنتج الشعور ومداه وما يترتب عليه من أفكار وخيالات ، فشاعريتنا هي قدرتنا على رؤية الكون/الطبيعة بنظرة تأملية نستشف بها الحيوي والروحي (المحسوس شعوريًا) ليصب بنا ثم ليتحول بعد ذلك بفعل الزمان لآلية حية وذاتية معقدة من الامتصاص وإعادة تشكيله نصًا ، أي ارتفاع الشعور من مستوى الإحساس النفسي لمستوى الحس الكتابي ، بتدفق ضخم يجذب معه ما يرتبط به من مشاعر ومواقف وذكريات ومحاولة الربط وتشكيل اللوحة، الرسمة الجديدة ، وقد قفز المرء واقعه الذي لم يعد صالحًا للوجود ، لعالم الشعر والخيال ، وبه يختبئ من المنغصات ويكثف ذاته في الكلمات التي اختارها وركّبها وغنّاها وهذا الوجود يخبو بعد تمام النص ليختفي ببطء بعد ذلك ويحاول الشاعر التمسك به من خلال إسماع الآخرين نصّه ثم يجد أنه عاد للعالم السفلي ، وعادت عليه إشكالات القيود والتشتت ونزاع ما أريد ولا أريد ومع أول شرارة إلهام يقفز للمحاولة ومع الاستمرار زادت سرعة اللحاق بالوجود الجديد ، وإذا كان الزمان قد أخذ دور الغنائي بذلك الوجود فإن المكان يكون أوضح ما يكون حين الإلهام وثقب الذاكرة ، إذ إن الوجود الخاص بالشعر يتواثب المكان فيه على هيئة أنا كبيرة ، ويصبح النص الذي هو بالأساس عذابي الذي أتخلص منه أي أن لا أبحث عن غيري ، مزيجًا من اندثار العالم وبقاء ظلّي ، وهناك حيث أنظر للخارج ألتقط لحظات لا تطول لكنها تكفي للتقدم بالحياة ، وحين أعود مرة أخرى بنص جديد فهذا لأن كل وجود يدفع من فيه لتغذية ظهوره وتنمية أنفسهم به ،
فالوجود الشعري لا يختلف عن الوجود الطبيعي/الفيزيائي في مسألة أن يبحث المرء فيه عن التقدم والامتلاك والتطور لكن الشعري يمنحنا القدرة على الغياب والحضور متى ما شئنا دون لوم أو عقوبة أو رقابة.
عصام مطير
الرسمة الملحقة للرسام Ganesh Panda