من شاعرية لميعة عباس عمارة ، شاعرة العرب ، قصيدتها براءة التي نشرتها بديوانها أغاني عشتار :
لعنة اللاعنِ يا شعر عليكْ
ما الذي أوقعني بين يديكْ
،
كل أسرار الورى مكتومةٌ
وخفيُّ الهمس مفضوحٌ لديك
،
والنص عبارة عن خمسة أبيات ، لكنها الأبيات التي حققت شاعرية كبرى بها ، حيث فسرت أيضا لماذا لعنت الشعر وأعلنت براءتها منه :
▪️لميعة ، شاعرة متمكنة ، تحمل أسلوبًا بديعا في الانتقالات ، والترميز البسيط ، والاتجاه الرومانسي ، وهي شاعرة مظلومةإعلاميًا لأنها ظهرت بفترة الذكورية الأدبية ولكونها من الصابئة ، ولنزعة الجرأة بنصوصها ، لقد ساعد كل ذلك في تنحيتها عن المشهد إلا عند النخب المهتمة ربما .
▪️أن يبدأ النص بلعن الشعر ، فهذه مفاجأة شعرية نادرة وهي مفارقة أيضًا (للنظرة التي ينظر الشاعر بها نحو شعره والشعر عموما).
▪️اتجه البيت الثاني نحو استنكار هذا الانكشاف للذات بالنص الشعري ، وقد أحسنت الشاعرة هذا التوضيح ، وبتلك الفترة اتجه الأدب النقدي نحو التحليل النفسي للشاعر من خلال نصوصه ، وقد سادت الفرويدية بالنقد ومال الكثير للحديث عن العُقد النفسية والجنسية عند الأديب ، لكن هذا ليس مقصد الشاعرة بالطبع ، إن مقصدها اجتماعي ونفسي ، انكشاف عاطفتها (ليس بالضرورة أن تكون عُقدًا نفسية أو جنسية) .
▪️براعة الاسترسال ، عبر أسلوب كم الخبرية (وهي تعبير عن اللا متناهي وما لا نحسن عدّه ولا يمكن حصره وليس مرادنا أن نعد) ،وبالتالي يكون المعنى المراد هو سمة أو صفة متأصلة وهذه الخبرية تعني الاعتراض ببعض استخداماتها (ضمنيًا) بالمحاجّة ، فأقول لشخص يدعي أنني بخيل مثلا ( كم ساعدتك ) وأقول (كم من جميل قدمته لك) وربما تأتي باستخدام المبالغة ، أقول متغزلا بامرأة كم من نجمة تغار منك (هنا كم الخبرية في تركيب تصويري استعاري وهي بهذا تزيد من قيمة الشعرية بالنص) ، وقد تأتي تبعًا لجملة تعجبية لكن على النقيض (ياله من يوم جميل ) ثم أُتبع الجملة (كم تعاسة عشتها بالأيام الماضية) وبهذا نحقق إيقاعًا بالتنوع الأسلوبي تناغمًا ، وكم الخبرية في مضمونها تعجبًّا ممزوجا بالاعتراض في بعض أحوالها بالجمل ، فحين تكون بمعنى الاعتراض هي أيضًا تحمل تعجبًا من إنكار الآخر لهذا العطاء غير المحدود مثلًا ، (كم من دمعة سكبتها لأجلك) أي أتعجب من هذا النكران عند الآخر وهكذا.
ومن خلال ما سبق فإن كم الخبرية لها أيضا أغراض بأسلوبيتها تحقق معاني سياقية بالنص ، والشاعرة هنا تريد بكم الخبرية أن تعترض على كون الشعر يفضح ذواتنا ، (مقلتيك) تشير للجاسوس الذي يسترق النظر ويكشف عن ملاذ الهارب ثم أبرزت (دعك) وكأنه يترجاها أو يحاول أن ينفي هذه التهمة فتنطلق نحو تأكيد التهمة (كل جرح قاتل، كل بؤسٍ جاء ، يقفو خطوتيك) إنها المواجهة التي اتخذتها الشاعرة مع الشعر (الذي أصبح بالنص شخصًا متهمًا ) شخصًا بمقلتين ويسير على قدميه (خطوتيك) وقولها خطوتيك تشير لقدمين وإن كانت القافية ألزمتها" خطوتيك" لا"خطواتك" ، لكنه إلزام ساعدها على (تشخيص) الشعر أي جعله شخصًا مخاطبًا ، وبعد ذلك القفلة الرائعة ، حجة (شيطان الشاعر) :
كم سبيل هربًا لُذنا بهِ
ولمحنا في الحنايا مقلتيك
،
دعك مني كل جرح قاتلٍ
كل بؤسٍ جاء يقفو خطوتيك
،
أنت لو كنت صلاحًا وهدىً
ما توسلنا بشيطان إليك
▪️شيطان الشعر ، هو حديث الشعراء العرب المعتاد ، وهو عند الأوروبيين "ربة الشعر" وربما عند غيرهم هو "ملاك الشعر" ، وهذا يذكرنا
بالشاعر كُثيّر عزة حين صاح بـ
“صاحبكم صاحبكم صاحبكم”
مناديًا (الجن) بشعاب الجبال بعد أن فاخره فتى من الأنصار ببيت من الشعر لحسان بن ثابت..
وحسان بن ثابت أيضًا يروى عنه في التراث الأدبي قوله:
ولي صاحبٌ من بني الشيصبانِ..
فحينًا أقولُ وحينًا هُـوَهـْ*
،
والشيصبان : قبيلة من الجن،واسم شيطان ، والبيت على البحر المتقارب ،
وقد كان لبشار بن برد شيطانا اسمه شنقناق وللكميت مدرك بن واغم وغيرهما كذلك ، وهذا الموضوع سأفرد له نفاشا مطولا بمقالة بالمستقبل عن الشاعر بين فرويد ويونغ
▪️لقد أحسنت الشاعرة استخدامها الدليل على حرمة الشعر بناء على كون الشاعر يلجأ لشيطانه ، هذه براعة منها فيالتنظير ، ويكشف لناعن حس الأنثى وقدراتها بالجدل و بشاعرية يفتقرها عادة الرجال الشعراء .
▪️شيطان الشعر أو ربة الشعر ، ليس سوى جزء من ذات الشاعر وقد تحدث وفسر هذا الجانب بتفسير مدهش كارل يونغبكتابه الروح فيالإنسان والفن والأدب .
للحديث تفاصيل أكثر قريبًا بمقالة بالمجلة (الرئيسية لركائز) ، عن الشاعر بين فرويد ويونغ ✨✨✨
من لديه أي تأمل بنص الشاعرة فليتفضل
