يرى جاك جان روسو في كتابه أصل التفاوت بين الناس ، أن الإنسان الهمجي الذي كان يعيش بالطبيعة ليس معرّضًا إلا لقليل من الأمراض ، فهو منذ ولادته يعمل بكافة طاقاته في قالب الطبيعة التي أعدته ليكون قويا على غير ما يجده في المدينة إذ تصبح الآلات بديلة لقواه مما يعرضه للضعف وقد ربط بين تاريخ الأمراض وتاريخ المجتمعات المدنية (مجتمعات المدن) .
يقدم روسو تصورًا فلسفيا للإنسان في طبيعته السابقة وقد ضرب أمثلة على الحيوانات المستأنسة كذلك في مقارنة مع مثيلاتها الوحشية ؛
" ولنحترز إذن ، من خلط الإنسان الوحشي بمن نراهم تحت عيوننا من الناس ، فالطبيعة تعامل جميع الحيوانات المتروكة لعنايتها باستحباب يدلُّ ، كما يلوح على درجة اغتباطها بهذا الحق ، فللفرس والهر والثور ، وللحمار أيضًا ، في الغالب ، قوام أكثر علّوًا ، وبنية أشد قوة ومتانة وجلَدًا وبأسا في الغابات مما في بيوتنا ، وذلك أنها تفقد نصف هذه المزايا عندما تصبح أهلية ، فيمكن أن يقال إن كل اعتناء في حسن معاملة هذه الحيوانات وتغذيتها لا يؤدي إلى غير إفسادها وقل مثل هذا عن الإنسان ، وذلك عندنا يصبح أنيسًت وعبدا يصير ضعيفا جبانا ذليلا ، ومن شأن طراز عيشه الرغيد المخنث أن يوهم قوته وشجاعته ولنُضف إلى هذا وجود فرق بين الرجل الوحشي والرجل المتمدن أكبر مما بين الحيوان الوحشي والحيوان الأهلي ، وذلك بما أن الطبيعة تعامل الإنسان والحيوان على السواء. فإن ما يمنحه الإنسان نفسه من رغد أكثر مما يمنحه الحيوانات التي يؤنسها يُعدّ أسبابا خاصة في انحطاطه أكثر من انحطاطها ! "
أصل التفاوت بين الناس ، روسو ، ت عادل زعيتر ، ط٢ الرافدين ص ٤٢
في مقارنته بين الإنسان والحيوان خلال ما كتبه بالقسم الأول من الكتاب نجد هذه الأفكار التي كتبها :
١. تختلف آلة الحيوان عن آلة الإنسان (يقصد الجسد والنزعات( في كون الحيوان تحت سيطرة الطبيعة فهي تفعل وتصنع كل شيء يخص الحيوان ، في حين يستطيع الإنسان الاختيار والانحراف عن القاعدة ويضرب مثالا توضيحيا لذلك "فإن الحمامة تموت جوعًا بجانب طبق مملوء بأطيب اللحوم ويموت هرٌّ على كدس من الفواكه والحبوب وإن استطاع كل منهما أن يتغذى جيدا من الطعام الذي يزدريه إذا ما خطر بباله أن يحاول ذلك"
يبين روسوا أن الحيوان لا يستطيع الانحراف عن هذه القواعد حتى لو كان لها نفع في هذا الانحراف ، في حين ينحرف الانسان عن مثل هذه القواعد في غير مصلحته ، ويضيف "وذلك لأن النفس تفسد الحواس ولأن الإرادة تتكلم حينما تسكت الطبيعة".ص ٤٥
٢. الأفكار عند الحيوان مقارنة بمثيلها عند الإنسان :
يقول روسو :
" ولكل حيوانٍ أفكار مادام يوجد له حواس ، حتى إنه يخلط بين أفكاره إلى حد ما ، ولا يختلف الإنسان عن الحيوان من هذه الناحية إلا إلى حد ما " ص٤٥
يقدم روسو معنى مهم يمثل الفارق بين الحيوان والإنسان ، إنه الفرق النوعي :"مقدار العامل الحر في الإنسان" ، يقصد حرية الإذعان أو المقاومة للغريزة والنزعة والفكرة ، فالحرية هذه التي بشعورها تبدو روحية نفسه ، هي الاختلاف والفارق بين الإنسان والحيوان ، فالحيوان تجري عليه الطبعية التي تقوده ويطيعها فليس له الحرية على مقاومتها وتبديلها كما يرى روسو ذلك .
٣. الموت بصفته إدراكا للزوال :
الحيوان لا يعرف الموت مطلقًا ، هكذا يعبر روسو عنه حين النظر لمسألة الوعي به ، في كونه مفهوما وظاهرة وبالتالي يدفع نحو تجنبه عند الإنسان (الخوف منه ومن أهواله ، فهذه المعرفة هي أول ما اكتسبه الإنسان بابتعاده عن الحالة الحيوانية ،
الموت معرفة جاءت من التعقل ، والعقل ذاته عند روسو هو تكامل بافعلية الأهواء ، فنحن "لا نبحث عن المعرفة إلا لأننا نرغب بالاستماع" وينطلق من هذه الفكرة ليعبهر عن الإنسان الوحشي المتصور في فلسفته عبر ربطه بالطبع الحيواني وسلوكياتها ، فإذا كنا نحن البشر المدنيين لا نرغب الأشياء ولا نخشاها الا للافكار التي يمكن تدور حولها ، أو لاندافع الطبيعة ، فإن الإنسان الوحشي لا تجري عليه إلا "اندافاعات الطبيعة " فكا ما يعرفه في الكون الغذاء والأنثى ، وكل ما يخافه الشرور هو الألم والجوع ، "الألم لا الموت". ص٤٧
٤. اللغة والعقل ، عند الحيوان والإنسان :
في مجمل حديثه عن العقل عند الإنسان الذي هو حالة كمال للأفكار ، يرى روسو أن الأفكار العامة لا يمكن أن تدخل في النفس من غير مساعدة الكلمات ، وبالتالي فهي لا تنال الإدراك من غير جمل ، فاللغة والعقل عند الإنسان متداخلان وغياب عنصر اللغة عند الحيوان هو ما يجعله يفتقد تكوين أفكار عامة يكتسب من خلالها الكمال (يعني به العقل ) ، ويضرب على ذلك مثالا ، فالقرد الذي يقفز من جوزة لأخرى لا يمتلك فكرة عامة عن الاثنتين ،، لكنه يرد ما يراه بالجوزة الثانية إلى ذاكرته وما بها من مشاعر إزاء الأولى ص ٥٤
،( هنا يقصد أن الحيوان يمتلك ذاكرة شعورية مرتبطة بحواسه ولم تشكل له فكرة عامة مرتبطة باللغة ، فبالتالي سيخسر الاستنباط وما شابهه من طرق معنيٌ بها العقل )
كانت هذه معظم النقاط التي قالها روسو في كتابه أصل التفاوت بين الناس عن الحيوانات ، وهي المحور الذي يهمنا في نظرة روسو ، ومنها سنناقش مستقبلا هذه النظرة بغيرها لديه أو عند فلاسفة وعلماء آخرين ، ومن لديه إضافة يستطيع كتابتها مع ذكر المرجع ليكون الموضوع تأسيسا لمن يريد البحث في هذا المجال ..
بالنسبة للكتاب أصل التفاوت بين الناس ، هو الكتاب الذي يستند عليه فلاسفة اليوم لنقاش أفكاره بخصوص الحرية (تشومسكي مثلا بكتابه غريزة الحرية ) وأنصح بقراءته ...