نقاش قصيدة طُهْر ، عمر أبو ريشة

على مجزوء الرجز ، كتب ⁧‫عمر أبو ريشة‬⁩ قصيدته "طُهر" ، المميزة هذه ويقول فيها : 

‏

ألفيتُها ساهمةً
‏شاردةً تأمّلا
‏،
‏طيفٌ على أهدابها
‏كسّرها تنقُّلا
‏،
‏شقَّ وشاح فجرها ..
‏خميلةً وجدولا

‏قالب البداية أنه "يحكي عن" وهذا مطلع القصيدة ، يصف ويؤسس لبطلة النص ، التي هي محور القصيدة كاملة وأما الشاعر فهو جزء ثانوي [راوية] لكن من خلاله نحن نبصرها ، والنص ينتقل من مطلع الشاعر "ألفيتها" بعد ذلك إلى بناء المشهد : ساهمةً ، شاردةً تتأمل وهي في ذلك كأن طيف ثقيل على أهدابها وقد كسّر هذه الأهداب بتنقله بينها وعليها [هذا تصوير بليغ لحالة الاستغراق التي تعيشها هذه الجميلة] وقد شقّ وشاح فجرها خميلة وجدولا أي أتعبها أو آبرز الجمال العظيم الذي تحمله فهو تأمل كاشف لها ويُحتمل الخميلة والجدول أي العينين والدموع ، فكأن هذا التأمل قد آبكاها لكنه مع ذلك فقد ارتبط بالفجر الذي هو رمزية للجمال ، وهكذا الشعر يمنحنا احتمالات متعددة تتناسب مع القارئ لكن الشاعر بالطبع كان يقصد احتمالا واحدا منهم فقط ومع ذلك فإن الشعر يتواجد بمساحة التصوير الضبابي والمحقق بالوقت ذاته لرؤية خاصة مرتبطه بإمكانيات {اللغة + الثقافة + النظرة الشخصية} .

‏وماج فيها رعشةً
‏حرى وشوقًا مُنزلا

‏ناديتها ، فالتفتت
‏نهدًا ، وشَعرًا مرسلا

‏واللحظ في ذهوله
‏مغرورقٌ تململا

‏لقد بدأ مطلع النص بكلمة "ألفيتها" ثم انطلق يحكي ويصف ، وبعد ذلك أسس للحدث الثاني بالمشهد عبر "ناديتُها" ، ثم حكى ووصف
‏وبعد ذلك
‏أسس للحدث الثالث بالمشهد عبر "طوّقتها":

‏

طوّقتها ، يا للشذا
‏مطوّقًا مُقبّلا

‏فما انثنت حائرةً
‏ولا رنت تدلّلا

‏ولا درت وجنتها
‏من خجلٍ تبدُّلا

‏كأنها في طهرها
‏أطهر من أن تخجلا

‏▪️هل تلاحظون كيف قسّم النص بتوزيع شعري للأفعال الثلاثة : "ألفيتها ، ناديتها ، طوقتها "

لقد وصف الشاعر جميلته بطريقة مميزة ، أسس المشهد الشعري القصصي، اهتم فقط بجزئية بسيطة من لقاء عارم ، ووصفه ، (لا يصح هنا الاختلاق أي أن تكون القصة مختلقة إلا إذا سحب هذا المشهد بالنهاية للحديث عن وطنه مثلا لكنه لم يفعل فهو نص غزلي ) .

‏بنى المشهد على ثلاثة أفعال تخصه (ألفيتها،ناديتها، طوّقتها ) من خلالها رصد كل ما يخص الطرف الآخر وبعد ذلك منحها مفارقة الطهر (أطهر من أن تخجلا) .

‏وهذا المشهد القصصي به بطء في الوصف (وهو بطء جميل) المشهد زمانيا استغرق وقتًا لنرصده بأذهاننا لكنه خلا من الحوار واهتم بالمفارقة في خاتمة النص "كأنها في طهرها.. أطهر من أن تخجلا"

‏على العكس منه قول المنخّل اليشكري:

‏ولقد دخلت على الفتاةِ-
‏-الخِدْرِ في اليوم المطيرِ
‏،
‏الكاعبُ الحسناءُ ترفلُ-
‏في الدمقس وفي الحرير
‏،
‏فدفعتها فتدافعت
‏مشي القطاة الى الغديرِ
‏،
‏ولثمتها فتنفست
‏كتنفس الظبي الغريرِ

‏نلاحظ هنا الشاعر قد وصف لكنه جعل المشهد سريعا يمر بنا مع عمق فيه ، ونلاحظ "فدفعتها فتدافعت ، فلثمتها فتنفست"

‏وقد اتجه الشاعر بعد ذلك لتقنية الحوار بالنص الشعري لإكمال المشهد :

‏فدنت وقالت يا منخّلُ
‏ ما بجسمك من حرورِ
‏،
‏ما شف جسمي غير حُبّكِ
‏ فاهدأي عني وسيري

‏وقصيدة المنخل شملت عدة مشاهد وتنوع بها فهي ضمت مشهد اللقاء لكن كان قبله مشهد مخاطبة وبعده مشهد شهير يحكي حاله به وهو مرتبط ببقية النص:

‏فَــــإِذَا انْتَـشَـــيْتُ فَإِنَّــني
‏رَبُّ الْخَوَرْنَــــقِ والسرير
‏،
‏وَإِذَا صَحَــــوْتُ فَـإِنَّـنِــــ
‏رَبُّ الشويهةِ وَالبَـعِـيرِ
‏،
‏وَلَقَــــدْ شَرِبْـــــتُ مِــنَ الْمُدَا
‏مَـــةِ بِالْقَـــلِيــــلِ وَبِالْكَثِيــرِ

‏تأتي قصيدة عمر أبي ريشة مركزة على مشهد واحد ، محافظة على روح الشعر في هذا العصر حيث يميل الشعر للجزئيات ومنحها عمقا والاكتفاء برمزيتها ، في حين جاءت قصيدة المنخل بروح الجاهلية التي كان بها الادب شفويا وتغيب عن أذواق أهله فن الرواية والقصة ، فالشعر حينها هو كل الانواع الأدبية لذا كان الشعر يحمل (خطابة، وشعر زهد ، وقصصيات، )

‏▪️وصف اللقاء بين الأحبة ، هو تناص شعري بالمشهد وهو من طبيعة الحياة الاجتماعية وكل شاعر يصفه بطريقته وليس معابا فالمرء بالنهاية يعيش تجارب مشتركة لكن التعامل مع التجربة يبرز رؤية كل شاعر ومهاراته.

من لديه أي تأمل خاص بقصيدة عمر أبي ريشة فليتفضل ، 

تستطيع تحليل النص لغويًا أو من خلال علوم البلاغة ، وكذلك من خلال سؤال نفسك ما الذي أعجبك بالنص ؟ ما هو الجمال الذي شعرت فيه وأنت تقرأ نص عمر أبي ريشة ومن ثم تفسيره ….