رداءة التكرار وتجنبها..
من مهام التكرار التأكيد وإبراز الرغبة والإصرار ، لكنه في غير تلك المهام عادة ما يكون مثيرًا للاشمئزاز والشعور بالرداءة ،
وفي الشعر كما نعلم تكون الدقة اللفظية والبنائية عند الشاعر وقاية من الكثير من الرداءات وللموسيقى الوزنية دور في ذلك أيضًا ومع هذا فإن الرداءة تظهر إما لفتور أصاب الشاعر أو أنه طبع متأصل في شعره لأنه لا يعي خطورة التكرار ويغيب عنه تقنيات التخلص من رداءته بالتوزيع الشعري .
يقول عبدالرحمن العشماوي في إحدى قصائده :
“لا تُطفئي شمعة لا تُغلقي بابا
… فمذ عرفتك وجه الفجر ما غابا
،
ومذ عرفتك عين الشمس ما انطفأت ..
ومذ عرفتك قلب الحب ما ارتابا
،
ومذ عرفتك ريح الخوف ما عصفت ..
ومذ عرفتك ظن الشعر ما خابا “
باستثناء صدر البيت الأول فتكرار البناء النحوي بعجزه وبالبيت الثاني والبيت الثالث يشير لضعف شاعرية كبير وهبوط بالذوق
.
لاحظ أن التكرار بالبناء استمر بخمسة شطور متتالية !!!
ولاحظ تجميع الكلمات بهذا التكرار “وجه الفجر ، عين الشمس ، قلب الحب ، ريح الخوف ، ظنُّ الشعر” ، خليط مجازي يثير التشتت والبرود وضياع المعنى ،
ثم لاحظ تكرار جملة “مذ عرفتك” خمس مرات ، وتكرار الأسلوب …
بهذا النص نحن أمام شاعر يطيل نصه بمستوى بدائي ، يجمع ألفاظ شتى ويعيد وضعها ببناء نحوي واحد مع تكرار المعنى ، لا شاعرية ولا خيالات مثيرة
وهذا النص تتجلى ببقيته رداءة البناء القصصي والحكاية ، خليط من “الفجر الليل الشمس” ، النص من يقرأه لا يستطيع التركيز لارتفاع التشتت به ،
والسبب بذلك أن القصة بالنص بدائية والشاعر يحاول حكاية شيء بخيالات بسيطة ولم يوظف تقنيات الشعر المتطورة كالحوار وتعدد المشاهد والأصوات إلخ
،
ما الذي يفتقده الشاعر بتلك الأبيات ؟
يفتقد الشاعرية موهبةً بالتوزيع الشعري فلم يستخدمها في نصه لأنه لا يشعر بها ، إذ كانت الأبيات ببناء نحوي واحد غالبًا (ما يقارب خمسة شطور) وبمجازات معنوية مشتتة ،
لننظر
من جانب آخر لأبيات نزار قباني :
أنـا أحبك حاول أن تسـاعدني
فإن من بـدأ المأساة ينهيهـــا
،
وإن من فتح الأبواب يغلقهــا
وإن من أشعل النيـران يطفيهــا
سنجد أن تكرار البناء النحوي كان بثلاثة شطور فقط وقد لازم ذلك توزيعًا شعريا إذ أن الشطر :”بدأ المأساة ينهيها” كانت المأساة كلمة معنوية في حين الشطر الثاني والثالث كانت الكلمات تشير إلى محسوسات ومرئيات “نيران ،أبواب” والشطرين الأخيرين استشهاد من الواقع …
وهذا الجانب في اتقاء رداءة التكرار بمنح التوزيع الشعري مهة إبراز التنوع ومنح الحركة للنص نجده عند أبي القاسم الشابي أيضًا بقصيدته صلوات في هيكل الحب:
عذبةٌ أنتِ كالطفولةِ ، كالأحـ
ـلامِ ، كاللحن ، كالصباح الجديدِ
،
كالسماء الضحوكِ كالليلة القمـ
ـراءِ ، كالوردِ كابتسام الوليدِ
،
الشابي
هذه الأوصاف ببيتين متتالين غنية بالشعر والسبب الرئيسي خلف ذلك ليس تنوع التشبيهات فحسب بل
تنوع البناء النحوي للأبيات بانتظام أو شبه انتظام (التوزيع الشعري)
فبعد قوله عذبةٌ أنتِ ، بدأ الشاعر بالتشبيهات لكن لاحظوا معي الفرق بين البيتين
البيت الأول :
ثلاثة تشبيهات بلا صفة إضافية :
“كالطفولة
كالأحلام
كاللحن “
ثم
تشبيه واحد بوصف :
“كالصباح الجديد”
،
البيت الثاني :
ثلاثة تشبيهات بوصف
“كالسماء الضحوك
كالليلة القمراء
كابتسام الوليدِ “
وتشبيه واحد بلا وصف :
“كالورد “
،
بهذا أثار الشاعرية
ولو استمر الشاعر بنفس البناء للبيت الأول لسقط الأداء ، ولكنه يعي هذه النقطة بحكم شاعريته العظيمة .
وعلى نفس العلة كان البيت الثالث والرابع إذ أنه لم يكرر البناء النحوي وأدخل جملة فعلية بالبيت الرابع ،
،
هذه النقطة مهمة جدًا في الشعر.
،
القصيدة كانت على البحر الخفيف ، وهنا بغناء محمد عبده:
مقالة رداءة التكرار وتجنبها بشاعرية التوزيع كتبها
عصام مطير البلوي
🌹
الرسمة الملحقة للفنان الروسي المعاصر Alexandr Averin