الجمال والشعور، والشعراء التعساء

حبكة النص الشعري تعتمد على ضبط كثافة المجاز (بلاغي أو رمزي)، وانضباط نوع السياق (خطّي/تراتبي أو شبكي/تقاطعي)، وبناء المعنى عبر هذه القصة القابلة للتخيل، أي ما يدور في الذهن وما يحتاج الشاعر في صياغتها إلى مشهد أو قصة تحكيها حتى لو كانت مكذوبة.. فالحبكة بالنهاية هي إمكانية العالم الافتراضي.
ليست الرمزية في ذلك عصية على انكسار الصورة فرداءة المشهد قد يلحقها حالها حال الرومانسية أو المدرسة التقليدية، بل لربما كانت هي الأقرب لتهشّم زجاجة المعنى من غيرها ومع ذلك فإن الشعر الرمزي يحمل على عاتقه مساحات شاسعة من إمكانيات جديدة وبجمال وفير متى ما استطاع الشاعر أن يكوّن القصة في مخيلة المتلقي ليضمن بقاءه على كرسيّه حتى نهاية النص وبعده، هذا البقاء هو ما نسميه “المتعة الجمالية” في الإصغاء أو القراءة، إنها الفارق بين الجميل والقبيح، حيث يسمي هذا النوع من المتعة علماء النفس بالمتعة المستدامة،
تقول لنا “بينس ناني” Bence Nanay بكتابها علم الجمال: مقدمة قصيرة جدا1
”عادة ما تكون المتعة الجمالية هي الحفاظ على المتعة. أنت تنظر إلى لوحة، والمتعة التي تشعر بها تحفزك على الاستمرار في النظر إليها. إنه نشاط مفتوح تماما مثل المشي على طول الشاطئ. يحافظ سعادتنا على مشاركتنا المستمرة في اللوحة..”
إن قصة الجمال والشعور به طويلة وشائكة لذلك دعونا نتأمل مشاعرنا ونحن نقرأ نصًا من النصوص الشعرية التي نستمتع بها، سنجد أن الشعر جماله ليس حكرًا على التناظر الثنائي، القديم مقابل الحديث، أعني أن الجمال قد يكون بالاثنين أو قد ينعدم وفق معايير أخرى غير الأسلوب، مثلا التظافر وتسلسل المعاني، الصور الجزئية، الموقف المحكي ثم إنني كدت أن أقول :
” أسلوب الكلمات، جمال ظهورها، والميل نحو الشعري منها، يدفعنا إلى كل ذلك زيادة حيويتنا، ارتفاع رغباتنا والشعور الكبير بلذة الجمال، إنها صحة الشعور ( أو الليبيدو بمنطق فرويد)” لكني تذكّرت تعساء كبار تقدموا بهذا المضمار مع مرضهم وتدهورهم، المعري مثلا في قصيدته التي يقول فيها2
“صاحِ هذي القبور تملأ الرحب
فأين القبور من عهد عادِ؟!
،
خفّف الوطء لا أظن أديم الأرض-
إلا من هذي الأجسادِ”
المعري
أو شاعرنا المبدع التعيس السياب الذي حشد أصنافا من الجمال في نصوصه، رغم تعاسته وعذابه الكثيف مع المرض ليقول بأحد النصوص3:
” ولكنّ أيّوب إن صاح صاح:
«لك الحمد، ان الرزايا ندى،
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمّ إلى الصّدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب،
هداياك مقبولة. هاتها!»
أشد جراحي وأهتفُ بالعائدين:
«ألا فانظروا واحسدوني،
فهذى هدايا حبيبي”
—–
السياب ،
إن الحزن قالب إبداعي في تحريضه لآليات الدفاع عن الذات، وهو مبدأ الانطلاق والتقدم،ودافعيته بذلك أقوى من دافعية اللذة والسعادة، فسعينا لتحقيق الذات، الإنجاز، الامتلاك إنما هو هروب من ألم وتعاسة أو مواجهة لهما عبر قفز القالب أما الحيرة فهي انقشاع الأقنعة من خلال الشعري، وهنا النص قد يكون في حال نظمه بما يُطلقون عليه متعة الإغاثة، أي انفكاك الألم والشعور حينها بلذة التشافي أو الإغاثة/النجاة، لكن هذا الذي يغيث الشاعر هو الشاعر نفسه، هو تجلّيه وتقدمه نحو ذاته الاجتماعية بذات شعرية محضة، تنتشل هذا الموجوع عبر الكلمة وإن كان السحرة والروحانيون يقومون بالطلسمة في علاجاتهم فإن الشاعر يعالج بالتخييل والمجاز، ويؤكد الروحي في مضمون الكلمة، إنها معجزة التلاقي بين الغيب والواقع، بين الميتافيزيقا والطبيعة، بين الشاعر المتطلع والمهندس العاجز.
يا قلبُ ما لكَ في اكتئابٍ لستَ تعرف ما تريد؟!
—
السياب
السطر الشعري المقتبس، من قصيدة السياب : “في القرية الظلماء”4، الموزونة على (البحر الكامل،تفعيلة)، وكانت رمزية رومانسية وظف بها خيانة الحبيبة وحبها لشخص آخر، وطاف بالتراكيب الشعرية يبني نصه الذي كان محوره، الاكتئاب والحيرة والحياة (في عينه )، وهدف النص التعبير عن حالة الصدمة دون كتابتها قصصيًا.
▪️اللجوء للشعر طريقة للبقاء والحفاظ على اتزان الشعور، في تركيبة السياب كما هي عند بقية الشعراء إلا أن الغرض الشعري (الحب ، الغزل، الوجدانيات) يكون اللجوء به ممثلا لذات الشاعر لا ذات المجتمع ،وهو لجوء حر يكشف لنا عن الشخصي جدًا في أسلوب الشاعر، على عكس ما سيفعله في نصوص الحروب والدولة التي يكون للنسق العام بروز أكبر بها، والشخصي الذي يمثل موقف الفرد أشد شاعريةً من الشخصي المعبر عن موقف المجتمع، وهو أصدق وأعمق، فكلما اقترب الشخص الذي هو الفرد بالمجتمع من الإنسان الذي هو الفرد في ذاته، كان يعبّر بفاعلية عن المعاني الكاملة المشتركة بين البشر والمشيرة للعاطفة الخيّرة، أما حينما يقترب الشخص للجهة المقابلة (المجتمع) فهو يعبّر عن كيان أكبر واختلافاته أعظم مع المجتمعات الأخرى، وهنا يتضاءل الشعر ويكبر حجم الفكر بالنص، والفكر وجهة نظر في حين الشعر وجهة جمال.
ما الذي يجعل القصيدة جميلة في أعيننا؟
أرى أن أهم ما يدفعنا للشعور بجمال القصائد عموما هو أنها تحمل عالما افتراضيا بها، حيث أن القصة أو المشهد أو المعنى الذي تقدمه يحمل عالمه الخاص، فالكلمات والإيقاع والقافية وبقية عناصر الشكل الكلامي يحمل في بيناته المشهد الافتراضي، الذي يستدعي التخيل والتوغل في عالم ممكن، وجديد، وهي بالتالي دعوة للاكتشاف وتحمل نداء لإمكانية العيش خارج الجسد، عبر السياق والفكر الذي تحمله والسرد والأحداث، ونحن حين نستمع ونصغي نتخلص من الجسد أثناء ذلك ، ولن تكون هكذا بمثل هذا التكوين الافتراضي المقبول إلا بكونها متماسكة والتماسك حينها يعمل على مضمارين، الأول إن الشاعر حين كتب القصيدة ونظمها إنما حافظ على تماسك العالم في ذهنه، فهو يحيا دوما بعالم منهار لا يستطيع تثبيته إلا عبر الكلمة، والثاني قادم من اللغة ذاتها عبر التاريخ، وهنا عبر المضمارين تشير القصيدة للخالقية أي تلك القوة المتماثلة بالروابط المتنوعة بين العناصر التي تؤسس وتحدد العالم الافتراضي الذي سنعيشه حال قراءتها والتماسك جماله أنه يشير للإله.
يقول السيّاب5:
ورُبَّ اكتئابٍ يُسيل الغروبَ
على صمته الشاحب الساهمِ
،
وأغنيةٍ في سكون الطريقِ
تلاشت على هدأة العالمِ
،
أثارا صدىً تهمس الذكرياتِ
إذا ما انتهى همسة الحالمِ
..
السياب
إن براعة الوصف والتخييل، حققت التماسك وإمكانية العالم الافتراضي الذي يريحنا من الجسد والواقع وقد منحتنا تلك البراعة لذة الاستغراق بمشهد جميل يحكي تعاسة لا حدود لها، وإن تأمّلنا التماسك في هذا النص بين ذوات الكلمات (اكتئاب، الغروب، الصمت، الشاحب، الساهم، أغنية، سكون،هدأة، صدى، الذكريات، همسة، الحالم) لعلمنا أن شعورنا الجمالي بأعمق ما فيه قادم من هذه العلاقات الممكنة بين كل هذه الذوات، إنه بفاعلية هذا الترابط يؤكد الإلهي الجميل فيه، حيث أن معظم ما سبق له علاقة مع الذات/الروح فهي ليست قوانين فيزياء بل معاني تخص الأنسان وشعوره ومعناه.
ثم إن هناك تناقضٌ ما نعيشه بالشعر أيضًا يخصنا نحن القراء في مواجهة الشاعر:
إذ أننا حين نقرأ معاناة شاعر مكتوبة في نصوصه من المفترض أن يدفعنا هذا للتعاطف معه والانكسار في لحظته التعيسة دون جمالية، فما الجمال في بكاء جارف؟ لكننا بالوقت ذاته الذي نتعاطف معه نشعر بجمال وانبهار بلذة وفرح نابعة ظاهريا من دهشتنا بالتخييل وقدرة اللغة على تكوين مشاعر مرتبطة بالكلمات وفهمها (لا النظر بأعيننا وتقييم الواقع)، غير أن هناك سؤال:
ماذا عن عقلنا المحاذي (أقصد العقل الباطن أو فلنقل الأفكار والمشاعر القريبة من الوعي لكنها للآن لم تبرز ونحن نقرأ )
هل وجدت لها مخرجًا لتمتزج بمشاعر اللذة دون وعينا بها؟ مثلا:
أن يفرح المرء بكونه ليس هو وحده فقط من يعاني؟
هل تجميل الأحزان يشدنا للتلذذ بالألم، تجميلها لغةً، غناءً، خيالاً، تحويل أحزاننا لفن يشيد به الآخرون، يشعرنا بأن أوجاعنا لها قيمة وأننا بأهمية كبرى بهذا العالم ؟
وماذا عنا نحن القراء: هل قراءاتنا لآلام شخص وتأملها وإن كان هو الذي صنع ذلك التجميل- يجعلنا نشعر بلذة البحث عن تعيس مقدس والوصول إليه؟ شخص أتعس منا وله طقسه الجميل في البكاء، هل الجمال حينها تشفّي أو تعاطف يحسسنا بالسمو؟
للحديث بقية
عصام مطير





