قراءاتقراءات أدبية

بُعدي عن الناس.. المعري

يرى نيقولاي برديائيف في كتابه العزلة والمجتمع أن الوعي بالذات يقتضي الشعور بالآخرين فهو اجتماعي بأعمق أعماق طبيعته الميتافيزيقية، ويسهب بعد ذلك بقوله1 :

وانعزال الذات انعزالا مطلقا ورفضها الاتصال بأي شيء خارجها أو ”بالأنت“ عبارة عن انتحار…

-برديائيف

إنني لا أجد في نفسي رأيا مختلفا معه سوى بمفهوم الوعي بالذات لأنه عندي يبدأ من حيوية الجسد وأما ما يبنيه ويُكمل فيه وجوده ومهامه فلا شك يقتضي الآخرين، ثم إن العزلة نفسها هي خيار جاء به التقدير رغما عن صاحبه، لأن مقاومة الرغبة بالآخرين تحتاج جهدًا جبارًا لإحداثه ولذلك فالعزلة بالأساس مرتبطة بالعجز عن هذه الرغبة وفي حدوٍد ما نتاج الصدمة والإدراك العميق لخطورة الحياة.

المعري 

يقول أن الشخص إذا عاش وحيدًا معتزلا الناس تشافى من أمراضهم وأصبح بلا عيوب وأن الاقتراب منهم يتسبب بأمراض ( أدواء جمع داء ) للعقل (الحجى) وللدين ، وضرب البيت المنفرد مثالًا وتشبيها ودليلًا ، 
فبيت الشعر إذا جاء وحيدًا بلا أي بيت يتلوه، لا تمسّه عيوب القافية التي لن تظهر إلا آذا كان البيت في نتفة شعرية أو قصيدة : 
الإيطاء: تكرار القافية لفظًا ومعنى بأبيات أخرى.
السِّناد: اختلاف حركة حرف الروي للقافية ببيت مقارنة ببيت آخر.
الإقواء: اختلاف حركة القافية مع الإعراب فمثلا تقول كبارُ ، وهي بالأساس منصوبة بالإعراب “كبارا” 
وقد نفاه عن لفظ القافية بقوله ”ولا في اللفظ إقواء“، لأنه من الممكن حدوثه ببيت وحيد ومع ذلك فلا يوجد ضرورة لظهور هذا العيب مادامه وحيدا فالإقواء يلجأ له الشاعر لمسايرة حركة القافية بالأبيات الأخرى لو اضطر له..
ولا يمكننا الحكم بالإيطاء والسناد إلا إذا جاء البيت مع عدة أبيات أخرى ..

المعري متشائم ولغوي بارع أيضًا، وبأبياته السابقة، شبّه نفسه حين ابتعد عن الناس وتجنبهم للحفاظ على دينه بالبيت الوحيد بالشعر حينها لا تقع عليه عيوب القافية، القصيدة ضمنيا ستكون المجتمع، والعيوب بالقافية هي العيوب التي تصيب الشخص بالمجتمع، ونظرته لسلوك الإنسان منفردًا مقارنة بسلوكه بين الناس هي نظرة عالم اجتماع لكن المرء يتعلم من أخطائه والحياة لا تصح بدون الآخرين كما نعلم، وهنا يأتي أن مقاومة الرغبة بالآخرين مجهدة ومتعبة لكن المعري لم يجتهد في هذا، لأ رغبته بالآخر معدومة نتيجة الصدمات والعمى والكآبة وفقر الحال، وأيضا فإن الناس لا تظهر خصالهم الذميمة إلا على من لا يستطيع ردعها وهذا وارد في شأن المعري وعزلته.

البيتان مبنيان على البحر البسيط وهما من قصيدة كتبها المعري مطلعها “إن مازت الناس أخلاقٌ يعاش بها” ، ومفتاحه : مستفعلن فعل مستفعلن فعلن.
والتقطيع العروضي لصدر البيت الأول:
“بعديمنن ناس برءن منسقامهمو
مستفعلن فعلن مستفعلن فعلُن”.
علمًا بأن الوزن عند العرب هو غناء الشعر، ولكل وزن عندهم ما اشتهر من ألحان كما يفعل العرب اليوم بشعرهم العامي المعاصر.
البيتان كذلك يبرزان الجانب الوقائي الذي ركن إليه المعري فهو لا يتعالى على الناس بكونه آفضل منهم فقد قال قبل هذين البيتين:

“أو كان كل بني حواء يشبهني،،
فبئس ما ولدت بالأرض حواءُ”

وعبر السياق يكون المعري مشيرا في بيتيه إلى الحرص على الوقاية من الشرور، وقد يتضمن ذلك فهما أصيلا للشر بكونه فعل مجتمع لا فعل فرد، وهذا يبدو ما يعنيه.

إن الشعر في تعبيره عمومًا قد يكون حديثا نفسيا يبرر فيه المرء حياته، ليخفف وطأة الألم بسماع تبريره شعرا، وقد يكون تطهرًا من الألم ذاته عبر لذة خلق النص الجديد، وفي حال البيتين السابقين من الممكن القول أنهما قد يكونان ردا لسائل لماذا تعتزل الناس؟ أو لسؤال الشاعر نفسه، وهنا يأتي الشعر إصغاء للمعنى النفسي العميق، ثم إنه لا يخفى عليا رغبة الشاعر في مهمة ديوانه لزوم ما لا يلزم، وهو ديوانه الشعري، الذي ظهرت به هذه الأبيات، والمعري أيضا ينطلق من تجاربه من مجتمعه، وإن كان قد فضل العزلة لكنه يتواصل معهم عبر الشعر، ويقوم بدور المثقف الناشط الحركي الذي ينتقد ويقيّم ويشير ويلمّح ويتفلسف.

🕶 كُن معنا!

ستصلك منشوراتنا كل أسبوع عن الجديد
والمثير بعالم الشعر والفلسفة

لن نرسل لك البريد العشوائي أو شارك عنوان بريدك الإلكتروني مطلقًا.
اقرأ المزيد في سياسة الخصوصية الخاصة بنا.

0 0 الأصوات
تقييم الأعضاء
1 نيقولا برديائيف (Nikolai Berdyaev)، العزلة والمجتمع، ترجمة ‎أفاق للنشر والتوزيع‎ (القاهرة: أفاق للنشر والتوزيع)، ص 101.
2 أبو العلاء المعرّي، لزوم ما لا يلزم، تحقيق عبد الله الخناجي (القاهرة: دار المعارف، بدون تاريخ)، ص 40.

مقالات ذات صلة

الاشتراك
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
الأقدم
الأحدث الأكثر تصويت
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Rkayz

مجانى
عرض