
لا أتذكر من يومي الماضي سوى أنني كنت على الطريق إلى شقتي ، متأملًا الإلهام، بظهيرةٍ تكاد تفتك بآمالي.
(الإشارة حمراء، السؤال يطرق ذهني، أتمتم وأتغنى، وفجأةً مشهد يهطل على عيني)
قلتُ: إنه الذكرى.
– إيه يا مدينة الغبار، هأنذا أهذي،-
عذرًا إنه ليس الذكرى بل الرغبة بذكرى تستحق الخلود.
(الإشارة خضراء، صوت فايزة أحمد ينساب: “يا من على جسر الدموع تركتني، أنا لست أبكي منك بل أبكي عليك”)
قلت لا بل هو الخلاص من الذكرى. ثم نظرت إلى نفسي وقلت هيا بنا للأعمق.
إن الإلهام هو إثارة نحو الجمال، لابد أن يكون المقصود فيه جماليا وأن يكون نتاجه إبداعيا حتى لو بمعنى الجديد على نطاق الشخص ذاته وإنْ كان عند غيره ليس كذلك، وهو بهذا
في صراع مع التاريخ، أو منشئ له، فالتاريخ هو الرصد والزمن، إنه سجن كبير، حيث المسارات مصممة مسبقًا، والمآلات معروفة، وقد جاءت الروح البشرية، محاولة في الفكاك من هذا الحتمي الجامد، فكان الرصد والتدوين، من باب تأكيد وجودنا في هذه المكررات، لكن التاريخ بمعناه الأكبر، حتى لو لم نرصده، يعني الجمود والتقدم للأمام، كما نرى في حالة النهر ومسيره بلا قصدية، وهذا ما يتعارض مع تكويننا الروحي، وقدرتنا على الإبداع،
جاء الإلهام في هذه الخانة الشائكة ليكشف لنا عن المواجهة، والصفة الكاشفة للإرادة، فلست أنت الذي تريد حين تُلهم، إذ تكون تحت سيطرة ذلك الانتباه وندائه لكنك في عمق ما نعتقد أنه استغراق لإرادة أخرى، تكون قد صارعت التاريخ، وأبدعت، وما أن تقدمت بخطوة للأمام تكون قد منحت التاريخ أيضًا مساحة جديدة للتمدد، فيجعل ما قد أبدعت فيه مكررًا أو بخاناته المعروفة: رصده، وتدريسه.
( الإشارة صفراء، سيارة كانت خلفي تنعطف لجانبي، ثلاث شتائم، ولم أستطع اللحاق باللغة).
إنه التاريخ، إذن.
أعدت النظر إلى نفسي وقلت هكذا يكون الإلهام تحديًا للواقع، وخروجًا على منطق المكان، وتجاهلا غير مقصود للزمن ثم إنه لابد أن يكون ذاتيا،
لقد قلت “ذاتيًا” فانتابتني شكوك عن الذاتية المقصودة هنا؟
هل أعني بها الروح/النفس أي اشتراط وجودها – وهذا مؤكد فالحجر لا يُلهم وكذلك بشرط الإبداع لا يشمل المعنى الحيوانات – أم أعني بالذاتية أن الإلهام: الذكرى؟
أي ذكرى؟
لو قلت أن كل فكرة تظل حية في ذواتنا، فالذكرى الماضية هي وحدة نفسية حية تشكّل في مجموعها (مع الوحدات النفسية المحاذية لها) النفس الكاملة، وبكل وحدة هناك رغبة للنمو على حساب بقية الوحدات كما يحدث بين الخلايا والأنسجة وإن كان بانتظام وإلا لاعتبرنا النسيج سرطان، وبالتالي فإن الإلهام ليس سوى التعبير عن معركة انتصرت بها وحدة نفسية في ذواتنا على النظم الحازم لتكويننا أو فلنقل بداية التحرك للمعركة، وما أثارها وإن كان خارجيا لكنه في الصميم النفسي، الذي لا نعلمه.
الذكرى هنا هي الوحدة النفسية.
قفز سؤال آخر، ماذا عن الرغبة والتطلع للمستقبل، ومجانبة التاريخ.؟
إنني حين أقول الذكرى لا أعني الموت بل الحياة، فالوحدة النفسية التي تشكلت واحتوت الذكرى والمشهد والعاطفة الملازمة والموقف الشخصي، تتطلع للنمو والتأثير وبالإلهام تكون قد كشفت عن حيويتها.
( الإشارة حمراء، اتصال مفقود، بدأت أعي التاريخ، درجة الحرارة بالقرب من الخمسين، والرياض لا نرحم)
انعطفت لليسار بعد جهد جهيد من مقاومة التفكير والشتات، للحاق بأقرب اخضرار، ثم إلى مرتبة نومي.
عصام مطير