"أَخوكِ مُعَذَّبٌ يا أُمَّ دَفْرٍ
أَظَلَّتهُ الخُطوبُ وَأَرهَقَتهُ "
المعري ، مخاطبًا في شعره الدنيا ذامًّا لها ، وما يهمنا في قصيدته الطويلة تلك كيف يصبح الشعر رقصةً على وجع ، ونغمةً عن قبر ، فهذا الألم العظيم الذي يبثه المعري عن معاناة الإنسان ينطلق بالطبع من معاناته هو ، والشاعر يرى في نفسه المثال ، الذي هو تمام الحقيقة أو خلاصة المعنى لهذه الحياة .
حين يحكي لنا شخص عن ألمه ، فإن كل امرئ منا يضعه في مقارنة مع ما كان منه في حياته ، مثلا :
لو اشتكى أحد من وجع برأسه ، فإننا سنعي ما يعنيه من خلال تذكّر وجع الرأس الذي ألمّ بنا ، ومن ثم نضعه في مقياس (الحدة والقوة) بناءً على ما جربناه من وجع رأس ، من كان لديه وجع رأس شديد جدًا سيكون مهتمًا جدًا بشكوى هذا الشخص ، ومن لم يجرب إلا الخفيف منه ، فسيمنحه درجة أقل من الأهمية .
هكذا كل كلمة وجملة عن الألم توضع في مقياس مع ذاكرتنا عنه وقدرتنا على تحمله ، كل شخص منا يحكّم تجربته ،
هنالك آلام غير متصورة نابعة من تجارب خاصة ، مثلا وجع المعاق مقابل السليم ، فالأخير قد يضع تصورًا تقديريا للوجع النفسي ،
وقد لا يعبأ بمعاناة من أمامه ، فالشعور بالنهاية هو أمر ذاتي لصاحبه ، ونحن حين نسمع شكواه نختلف بردود أفعالنا نحوه بناءً على عوامل كثيرة ومنها تصوراتنا عبر قياس الألم بما كنا قد مررنا فيه من آلام ، وحين الحديث عن الألم النفسي تدخل (الأنا) فكل منا يرى في آلامه الحدث الأعظم فأنا بالنهاية الحياة التي أعيها ، وهي تحت حكمي وتقييمي ،
والشعر بعد هذا هو طريقة الشاعر في إقناع من حوله أن وجعه يستحق الانتباه ، وأن الحياة تحت حكمه ، ولأن الكلمات والجمل الشعرية بها من المجاز ما بها ، فقد صعّبت على المتلقي مسألة (القياس) التقليدي السابق ودفعته لتصور الألم عبر المشهد والصورة والقصة الرمزية لتجعل الشاعر بالنهاية بطل الحياة عبر القرون وأثره باق بقاء اللغة ، مقارنة بذلك الذي وصف وجعه لقومه بكلماته المباشرة وقاسوها بتجاربهم .
قصيدة المعري التي مطلعها البيت السابق ، اخترت لكم منها في تعبيره عن وجعه من الدنيا هجاءه لها :
أَرى الدُنيا وَما وُصِفَت بِبِرٍّ
مَتى أَغنَت فَقيراً أَوهَقَتهُ
،
إِذا خُشِيَت لِشَرٍّ عَجَّلَتهُ
وَإِن رُجِيَت لِخَيرٍ عَوَّقَتهُ
،
حَياةٌ كَالحِبالَةِ ذاتُ مَكرٍ
وَنَفسُ المَرءِ صَيدٌ أَعلَقَتهُ
،
وَأَنظُرُ سَهمَها قَد أَرسَلَتهُ
إِلَيَّ بِنَكبَةٍ أَو فَوَّقَتهُ
،
فَلا يُخدَعُ بِحيلَتِها أَريبٌ
وَإِن هِيَ سَوَّرَتهُ وَنَطَّقَتهُ
،
تَعَلَّقَها اِبنُ أُمِّكَ في صِباهُ
فَهامَ بِفارِكٍ ما عُلَّقَتهُ
،
أَجَدَّت في مُناهُ وُعودَ مَينٍ
إِلى أَن أَخلَفَتهُ وَأَخلَقَتهُ
✍️
وللحديث بقية ..