عُرف جان كوهين بكونه الفيلسوف والناقد الفرنسي الذي وضع بُنية الشعر في نطاق الإمكانية العلمية ، إذ أراد أن يضع قوانين ومعايير من خلالها نستطيع معرفة الشعر وقياسه ومع كون المهمة مستحيلة إلا أن مجرد البحث في نطاقها كشف عن جوانب مهمة بالتركيب الشعري .
كتابه بنية اللغة الشعرية (Structure du langage poétique) هو الكتاب الذي سأتناول أهم ما فيه على عدة مواضيع ، وسأضع له بعد ذلك مقالة متكاملة بالمجلة عما يهمنا من قراءة في الشعرية بينه وبين البقية أمثال تودروف وجاكبسون وآخرين .
ما هو الشعر ؟
يحدثنا كوهين بكتابه أن كلمة "شعر" أخذت بالتوسع بالعصر الحديث لتشمل النثريات ، وهو الأمر الذي يذكرنا بكلام أرسطو عن الشعرية أو فن الشعر بأن هويته المحاكاة وليس الوزن ، فالشعري هو أن تحاكي لتتطهر ، أن تتخلص من مشاعر معينة ، وهذا يشمل التراجيديا والكوميديا ، وبالطبع هذا التقسيم بالموضوع يجعلنا أمام النصوص المسرحية والقصصية ، وهذا التصنيف هو ما يعده العرب "الأدب" عموما مع بعض توسعات يقوم بها بعض النقاد لكنها لم تلق رواجا لكون مصطلح "شعر" عند العرب ترسخ بالعقل الجمعي والتاريخي بكونه مرتبطا بالغناء/الوزن ، وقد قفز العرب بالشعر بمرحلة الرومانسية ليشمل شعر التفعيلة مع محاولات في ضم قصائد النثر وبعيدا عن صراع المصطلحات فإن "الشعري" يشمل كل الأصناف الأدبية ،
نجد مثل هذا الحديث عند كوهين والأدب الفرنسي وقد تكلم بكتابه عن هذه الإشكالية بالمصطلح :
كلمة شعر كان لها في العصر الكلاسيكي معنى لا لبس فيه ، وقد أخذت اليوم معنى أوسع ولو عند جمهور المثقفين وحسب ، عقب التطور الذي بدأ بالرومانسية ،
-- لقد مرت هذه الكلمة أولا عن ريق النقل ، من السبب إلى المسبب ، من الموضوع إلى الذات
-- هكذا عنت كلمة "شعر" الإحساس الجمالي الخاص الناتج عادة عن القصيدة ، ثم توسع استخدامها في كل موضوع خارج الأدب يثير هذا الإحساس ..
يميز جان كوهين بين ثلاثة أنماط للشعر ، بناء على مستويين للغة : صوتي ، ودلالي .
الصوتي له خصائص النظم عند الجمهور ، في حين الدلالي مهم لكن عادة الناس تهتم بالموسيقي والإيقاعي ليس عند العرب فقط حتى عند الأوروبين ، وهو ما نجده في كتابات جان كوهين بكتابه ، وقد قسّم الشعر إلى :
١. الشعر الكامل ، قصيدة دلالية وصوتية الذي يشمل الانزياح الصوتي (الوزن) و الانزياح الدلالي ( تخييل ، استعارات ، إلخ)
٢. قصيدة النثر ، قصيدة دلالية أي تشمل فقط الانزياح الدلالي وليس لها وزن ( يقصد الخواطر ، على أنني أرى القصصية تتفوق)
٣. الشعر الصوتي ، قصيدة صوتية تشمل انزياح صوتي وليس فيها انزياحات دلالية ( يقصد مثل ألفية ابن مالك) وهو عنده نثر منظوم
وبعد ذلك يكون هناك النثر الكامل الذي ليس فيه انزياحات صوتية أو دلالية
ما هو الانزياح ؟ الأسلوب ؟ الشعرية؟
يحدثنا كوهين عن سؤاله : (هل توجد سمات حاضرة في كل ما صُنّف ضمن "الشعر" وغائبة في كل ما صُنّف ضمن "النثر"؟) ،
بأنه السؤال الذي يجب أن تجيب عليه كل "شعرية" تريد أن تكون "علمية" ، يُريد كوهين بهذا أن يشد الشعر نحو الدراسات العلمية أي التي تنطلق من القياس والرقمية والكمية كأن الشعر مادة تشبه الفيزياء ، لكن مع كونه جرأةً على الذات ولا تعجبني فقد بدا لنا أنه شد اللغة نحو دراسات قابلة للإحصاء ، وقد قارن بين النثر العلمي الذي اعتبره اللغة الصفر ، لك أن تقرأ بأي كتاب علمي مثلا عن الكيمياء أو الفيزياء وركّز باللغة المستخدمة إنها لغة بلا استعارات ولا تخييل ولا وزن ولا موسيقى ، وبهذا فإنها اللغة الصفر التي من الممكن أن تكون معيارًا نقيس به الانزياح عنها بالشعر .
عن الأسلوب يقول كوهين :
الأسلوب هو كل ما ليس شائعًآ ولا عاديًا ولا مطابقًا للمعيار العام المألوف
---- إنه انزياح بالنسبة للمعيار أي أنه خطأ لكنه كما قال" برونو" خطأ مقصود
يقصد بأنك مثلا حين تقول بالباب أسد وأنت تقصد بالأسد فلانا من الناس ، فإن هذه الاستعارة تُعتبر انزياحًا عن المألوف من اللغة وبالتالي هي خطأ لكنها خطأ مقصود ، وهذه الجملة ناقشها بول ريكور بكتابه الاستعارات الحية وسنتأتي بالمستقبل في نقاش آرائه هو أيضًا .
يقول عن لغة الشاعر :
إن الشاعر لا يتحدث كما يتحدث الناس جميعًا بل إن لغته شاذة وهذا الشذوذ هو الذي يكسبها أسلوبًا ، فالشعرية هي علم الأسلوب الشعري
ما الذي يقدمه جان كوهين بكتابه ؟
إنه يقدم تصورا علميا للشعر ، في محاولة لدراسة الشعر بمبادئ علمية مثل الإحصاء ، ودراسة الانزياحات ، وما يجعلنا نعرف الشعر بالأسلوب وقد قدم آراء أراها جيدة أما فيما يخص المسألة الذاتيه فهي ليست من شأنه .
سنكمل شرح أمثلة ونقاشات متعددة بكتابه ، وبالمستقبل سأستخدم بعض الفقرات لتقديم مقالات قرائية بالمجلة تخص الشعرية بآرائه وآراء غيره .
للحديث بقية
