القليل عن الإرهاق
يتعرف المرء على نفسه جيدًا حين يكون مرهقًا ،
سيعلم ما الذي يزعجه بالتحديد ، وكيف تأخذ منه الأماكن / الأشخاص طاقته وما يثيرونه من راحة أو تعب ، بشكل دقيق جدًا ،
وهي أهم إيجابيات “الإرهاق” لكن أسوأ سلبياته أنه لن يستطيع تعديل ذلك الوضع وهو يعاني منه .
الإرهاق المزمن ، قالب حياتي من العلاقات الخطأ والسلوكيات والتصرفات والتغذية الخطأ ،
لكن هناك أمرًا في عمق أذهاننا له دور كبير يؤسس لكل القالب السابق ، إنه
الشعور المتراكم بأننا فاشلون .
تقييمنا الداخلي الاعتقادي الفكري النفسي لخلاصتنا:
بالفشل .🍂
في محيط يكثر به البكاء ، ويوهم أفراده بأنهم مضطهدون ، أو من أمة منهارة مهانة محكوم عليها بالعذاب،
وفي ذات تجد بمعاناة الآخرين وسيلة للعيش والتكسب ، وفي مجتمعٍ ، القلق من المستقبل أحد مكوناته ،
فإن الفشل مسيطر بالأعماق ويعمل على توجيه العقل/النفس بأن تكون ميالة لصناعة “الإرهاق” الذي
يحافظ على تواجده بيننا أيضًا بأن يتفاخر ويتنافس الناس بنشر معاناتهم ، وتأكيد مكانتهم المقدسة جدًا من الألم والضياع …
فالفشل لا يكتسحنا إلا من خلال هؤلاء الطيبين المجرمين ،
ولا يدفعنا للمزيد منه إلا بتكريس التنافس بالأذى وشهوة البكاء على الأطلال .
هذا الإدراك المتراكم المختبئ في سطور أعماقنا ،
وأقصد شعورنا بالفشل ،
يحفّز اعتقادًا عامًا بأننا بلا إرادة ، وأن حياتنا أقدار نمضي عليها مرغمين ، مما يؤسس لانخفاض الدافعية ، ويعزز تواجد اليأس ، وهذا بالطبع كله يصب
بأن يقلل المرء محاولاته ويزداد تمسكًا بالتعب والكآبة…
،
إن الإرهاق قبل أن يكون عرضًا لمرض عضوي ، كان قائد فذًا في التعاليم التي نتلقاها من مجتمعنا ، بكيف نعبّر عن ذواتنا ، وإلى أي مدى يجب أن تكون طاقتنا ، أي وجودنا .
فضخامة وكثافة القيود ، التي نتلقاها صغارًا باسم التربية الحسنة التي تهدف وفق عقلية مجتمعنا إلى تجاوز الفشل الوجداني الذي نرى مظاهره بالبكائيات على التاريخ وتقديس السابقين والتقليل من شأننا بالواقع مع امتزاج
تلك التربية بوحشية الجدران التي أصبحت سمة المدن الحديثة (وهي أمر مشترك بين غالب البشرية اليوم)
فإن ذلك المزيج المكون مما سبق يؤطر وينمط أذهاننا وأجسادنا لتأدية محدودة وتخطيط مقيد للخطوة ، منذ الصغر ، وبابتعادنا عن الطبيعة التي تمثل الانطلاق الحر ، فإن الذي استحوذ على فاعليتنا ، هي البرامج التي تنتهي بالإرهاق ، واليأس ، والذوبان بالتذمر والحقد على العالم .
،
عشرات الأسباب إن لم تكن المئات للإرهاق قد تكلم عنها الطب ، وناقشتها أدويته ، وما يهمني بمقالتي هذه هو دور الابتعاد عن الطبيعة وتكريس التعاليم الجدرانية في إبرازه حيث يختلط الشعور بالفشل ،بمعالم ومنتجات الجدار .
لمعالم الطبيعة ، نداءاتُ الحرية ، التي تظهر بحيوية الشروق وشاعرية الغروب ، وتلك الأوقات المتدرجة في الضوء ، ثم ذلك الليل المرصع بنجوم تجعل من الصمت حكمة عالمية ، وقد اتخذ وجداننا منذ الأزل ، نظامه في تقسيم طاقته والتعامل مع الكون ونظامه .
وحين النظر ، بعالم المدينة بالكفة الأخرى ، فالأمور تسير نحو معاكسة الكون والتحايل على الزمن ، والدخول في متاهة الطقوس التي يفضلها المصنع وأرباب العمل ، وهي في ظل الجدران والبنيان وامتناع النظر عن المدى الحر ، تبعث إشاراتها النفسية للضجر وتراكم الغضب الوجداني ، وتقييد حركتنا وتعويد أنفسنا على تقطيع طاقتنا ومنعها من الاستمرار ،
وهو الأمر الذي يعني بالنهاية مرضًا من الأمراض المزمنة .
إن جذور الأرهاق لم تبدأ بالتلوث بل بدأت من فكرة المفارقة للكون وتحديه ، وفشلنا الحتمي في النجاح بذلك ، “أي شعورنا أيضًا بالفشل ضمنيًا” ،
وبأمم لها توهان وجداني في فهم الحياة بسبب التسلط التاريخي ، والمدارس التي تعمل على تمزيق القدرة التحليلية والتفكيرية لدى الفرد وصهره بقالب ضخم وكبير من اليأس بتعويده
على قال ، وقيل ، دون أي تفكير أو تفسير حر ،
وبأمم لها أيضًا
شعور غاضب من كونها عاجزة ، ولديها طموح عالي ((غالبًا يأخذ الشكل الشاعري)) فإن هذا المزيج
المتكون من مفارقة الكون وتحديه والفشل والجدران المعاصرة والعقلية المتوهمة الشاعرية سيشكّل تربةً خصبة للذبول المبكر ، بأشكاله المتعددة والمتقاطعة بنقطة “الإرهاق” بالحجم الذي ربما يكون في تلك الأمم أضخم وأعظم من غيرها.
عصام مطير البلوي
الرسمة الملحقة للفنان كلاود مونت