في التحطم.. (1)

ستبصر الكثير حين تخرج من قالب (المدينة)، حين تعيش مكتظًا باليقظة أمام طبيعة تبصرها هذه المرة بلا آلات ولا قوانين وتعاليم، وستشعر بالذات التي تهرب منها عبر الزحام وتدرك الروحي والشعري وفن الغناء في الظلمات..
الذات بصفتها وحدة واحدة .
مما تشكلت منه الذات وجودًا، ثلاثية الزمن المتدفق (الماضي، الآن، المستقبل)، وقد نالت تكوينها أيضًا من ثلاثية أخرى (الروح، العقل، الجسد)، وعلينا النظر بالثلاثيات لا كهيئات منفصلة بل كتزامن ممزوج أو بشكل أدق: مظاهر من تكوين أساسي مجهول لنا، ليس هذا على مستوى الثلاثية الأخيرة فقط بل حتى الأولى التي تخص الزمن، الذي هو أيضًا واحد في ذاته ومزيجٌ من وعينا به (فهذا الذي هو ماضي ، مازال موجودًا في ذاكرتنا التي هي (الآن تعمل) وهذا الذي هو الآن مازال (لم يحدث في كونه لم يتحول بعد إلى طريقة تفكير) وهذا الذي هو مستقبل ( لقد حدث منذ مدة في كونه إطارًا أو قالبًا) وهكذا فالوجود هو تزامن لا حصر له لكنه من حيث مستوى الوعي قابل للتقسيم (السطحي) أو (المخادع) أو حتى (الصوري) كما نفعل حين نقول روح ونعني بها الذات الحية بالجسد، وعقل ونعني به الوعي وما يشمله والوظائف الضمنية ، وجسد وهو ذا الذي تمتزج به الروح ليكون العقل نتاجه الأهم،
يُعيدنا هذا إلى قصة المنزل والاستشهاد به عند ”موريس مرلوبنتي“ في كتابه ظواهرية الإدراك1
( إنني أرى المنزل المجاور من زاوية معينة، وهو قد يُرى بشكل مختلف من الشاطئ الأيمن لنهر السين، وبشكل آخر من الداخل، وبشكل مغاير أيضًا من الطائرة، أما المنزل ذاته فليس هو لا هذا المظهر ولا ذاك، إنه على حد تعبير لايبتنز ، هندسية وجهات النظر تلك وكل وجهات النظر الأخرى الممكنة، فهو المنزل الذي يُرى ولكن ليس من أي مكان)
ما أشار إليه الكاتب ليس حصرًا على الأشياء بل حتى ما نسميه معنى أو ما نطلق عليه الذات..
الوعي والشعر والوجود..
اللحظة خاصة دوما بالذهن الذي يعيشها، فهي ليست زمنا بل معنى متضمن أحداثا متدفقة في تيار الوعي البشري، وبما أن لكل امرئ منا وعيه الخاص، فلديه لحظته التي يعيشها، ولن تتكرر بعد ذلك له وهو أيضا لن يتكرر للزمان الذي مثلته تلك اللحظة، وللمعري بيت من الشعر2 يحكي الكثير فيه :
وما أعود إلى الدنيا وإن زعموا
أن الزمان بمثلي سوف يحكينيالمعري
بمشهد الشعر، من الممكن أن نفهم وعينا وعلاقته بوجودنا، وكما أسلفت فكل منا له وعيه الخاص، أي وجوده الذي يمثله في هذا العالم، فلننظر للحظي مثلا في النص السابق وأنا أعيشه متأملا ما قاله المعري وبالوقت ذاته أعي ذاتي من خلال الفكر الذي أمر فيه، وبتدفق الأحداث، وإدارة ذهني بالتزامن مع ”أناي“، أدرك أن الوعي بالشعر هو حضوري بعالم النص حيث أعيش الشعور الذي تقوده الكلمات ودلالاتها وخيالاتها وذاكرتي و“لاوعيي“ ، وهو بالوقت ذاته غيابي عن الكون (محيطي الفيزيائي) وكذلك ذاكرتي ولاوعيي إلى محيط من نوع آخر، ذاكرة تتلقى و“لا وعي“ مختلف، أي أنه اجتزاء لذاتي ، أبصر فيه شيئًا من الخروج من الجسد ( التجرد من خطر الآخرين واحتياجي إليهم أيضًا الذي يذكرني بهما دومًا جسدي)..
هذا الاجتزاء الذاتي يعمل على لذة الاستمرار بالشعر ومحبة الموهبة عبر إدراك ما لا يمكن إدراكه بوجود آخر فلا أحد يدرك غيابه (ما شكله ولونه) عن مكان ما فنقل قريته مثلا إلا من خلال ما يخبره به الآخرون ، فكوني غائبًا عن المكان الفلاني قد يدفعني لتخيل ما أثر غيابي عليه ولو أردت أن أقطع الشك باليقين فسوف أسأل الآخرين به عن انطباعاتهم وملاحظاتهم وبالتالي هناك جهز السؤال وقلق الإجابة وما يمكن أن يكون له قيمة مرتهن بالآخر وصدقه واهتمامه، لكن يحقق لنا وعينا بالشعر (قراءته وتأمله أو الاستغراق بكتابته) الغياب عن المكان من خلال الاجتزاء الذاتي، وإني حينها فقط سأدرك ما شكل ولون غيابي ذاك دون الحاجة لسؤال الآخر، ولعل هذا ما يدفعنا للذة الاستمرار بالشعر عبر هذا النوع من المعرفة الذاتية.
إن وجودي حين وعيي بالشعر، هو جزء من وجودي الكلي، وإن وجودي لحظة وعيي بالمكان والمحيط المعتاد هو أيضًا جزء من وجودي لكنه ليس كل وجودي، لأن وجودي الكلي هو مجموع ما أجدني فيه من عوالم ممكنة، مع النظر بأن وعيي بوجودي لن يكون شاملا لواقعي تماما وأن محيطي سيعي وجودي هو أيضا بطريقته وبتمامٍ ما، يختلف فيه عني، وهكذا فأنا لست وجودي إلا بالقدر الذي أعي فيه نفسي بهذا الوجود مع نقص يدركه غيري لي، وهذا النقص بين ما أعيه وجودًا لي وبين الوجود الفعلي الكامل لي، يتجه الشعر منه للإيحاء والإشارة إليه من خلال التشبيه والتصوير، والتعبير عن الذات بكائنات الطبيعة، إنه نوع من الكلام غير المباشر، بأن هناك ما يتجاوز وعي الفرد ويحاول الشعر ذاته إكماله أو الإشارة إليه.
استطاع الشعر هنا إثبات مستويات مختلفة من الوجود بناء على الوعي فعالم الشعر مختلف عن عالم المكان، وإن كانت اللغة حاضرة بالعالمين لكنها بظهور مختلف كما يحدث لي (مستويات ظاهراتية)، فالشعر بوعيي يمثل الاجتزاء، ومن خلاله أدرك أن عوالمي وجودي مختلفة، وأن هناك ما يريني إياه وعيي، وهناك ما يريني إياه الآخر.
لقد استطاع الوعي بقدرته على الحضور والغياب بعدة عوالم إثبات مبدأ الوجود :”أنا داخل العالم والعالم داخلي” لكن هذه المرة العالم أكبر بكثير من كلمة “كون”.
الإيجاد والتخيّل والذاكرة…
قيل “أنت ما ترى” ، إنها جملة تحمل مقدارًا كبيرًا من الحقيقة، فأنت هي وجودك ، الذي ليس سوى انعكاسات قابلة للكشف عن قدرتك على أن تكون، فأنا (موجود) بالقدر الذي يجد عالمي الخارجي انسجامه معي، تأثيره علي، وكوني مع التيار، وأنا (موجِدٌ) وإن كان بقدر يسير، حين أقاوم اضمحلالي بعالمي ذاك (وهذا نادر بين البشر) وقد يدفع هذا الاتجاه للبحث عن محيط جديد (بعيدًا) أجرّب فيه وجودي الذي سرعان ما أكتشف أن المشكلة أكبر من كوني غير منسجم مع المحيط السابق، فهأنذا أيضًا غير منسجم مع محيطي الجديد، ليشير كل هذا لمسألة تخص أعماقي وأنني إما تائه (وهذا دليله أنني بلا معرفة ومازلت أهذي) وإما موجِد (أسعى لنقلة كبرى بالعالم ) ودليله (معرفتي الواسعة وتشكيلي لفلسفة ما) ، موجِد لكن بقدر يسير في تغيير محيطي (الآن الذي لم يحدث لكونه لم يتحول بعد لطريقة تفكير وجودية هذه المرة) ،
وعليه فإن الإيجاد مرحلة خطرة، علي التعامل معها فهو “خرق للعادة”، (معجزة) تدفع المحيط كله (الذي هو ماضي على هيئة ذاكرة ) لاغتيال وجودي لذا يسهل ويميل المرء لاحتضان ماضيه والنظر دائما للخلف حين يتقدم للأمام،
وهذا أيضًا ما يثبته ”العلم“ اليوم (الذي هو اختزال لوعينا ووجودنا لكن حتى لو كان كذلك فوجود دليل منه على قراءات مرصودة يساعدنا على فهمٍ ما لوجودنا وإن كان محدودًا) ومن تلك الإثباتات نأتي بقصة هنري ماولسون المريض الشهير بعالم جراحة الدماغ والأعصاب، الذي فقد ذاكرته طويلة الأمد نتيجة العملية الجراحية التي أُجريت له لإنقاذه من مرض الصرع مبكرًا، فقد أُصيب بالصرع بسن الخامسة عشر ورُبطت إصابته به بحادثة بسن السابعة حين سقط من دراجة هوائية على رأسه ، ومع بلوغه الخامسة عشرة تفاقم وضع المرض لديه ومع أنه تعالج بأدوية مضادة للصرع لكنها لم تساعده كثيرا بعد ذلك فبسن ال٢٧ أصبح عاجزًا نتيجة المرض وبعدها بشهور أي بعام ١٩٥٣م بُعث لجراح الأعصاب وويليام سكوفيل الذي ربط صرعه بالفص الصدغي الإنسي من الدماغ بالجهتين ، left and right medial temporal lobes
أزال الجراح الجزء الأوسط من الفص middle part of medial temporal lobe علما بانه كان يعاني من atrophic lesion “تضرر ضموري” بالفص الآخر بنصف الدماغ المجاور ، مما يجعله حاملا ل bilateral lesion “تضررين جانبييين” ، وقد أزال الجراح أيضًا معظم الحصين hipocampi و اللوزة الدماغية Amygdala و القشرة المخية الأنفية enterohinal coretex المسؤولة عن المدخلات الحسية لمنطقة الحصين3 …
إن ما يهمنا بقصته أنه لم يعد قادرًا على التخيل،
تخيّل المستقبل والتفكير به، بعد فقده الحُصين بالعملية تلك، فالحصين هو الجزء المسؤول أو المفتاح المهم في صناعة المستقبل من خلال الذكريات والتجارب المخزنة بالذاكرة، يقول ديفيد يقل مان بكتابه : الدماغ ، قصتك ، المترجم بعنوان :الدماغ أسطورة التكوين4 .
“ لتخيّل تجربة الغد على الشاطئ ، يلعب الحُصين hyppocampus ،على وجه الخصوص ، دورًا رئيسيًا في تكوين مستقبل متخيّل من خلال إعادة تجميع المعلومات من ماضينا “
The Brain, The story of you
إن الإيجاد الذي هو خلق للممكن ( إيجاد على مثال سابق) يندرج في مفهوم التخيل الذي جاء من الماضي، وقد استحال الخيال والنظرة المستقبلية حين تدمرت العلاقة مع الذكرى ، الذكرى هي وجودي الذي هو ممتد للآن لكنه أخذ مع الزمن ظهورا مختلفا وحين نكون بلا ركيزة الذاكرة نحن لا نعلم ولا نعرف الطريق للمستقبل أي أن المستقبل بوعينا الخاص عدمٌ محض ولن يكون لكوننا لا نستطيع تصوره (إنها حالة مثل حالة الأعمى ) لكنها أكبر لأنها عند الجميع ولأنها جزءٌ من وعينا فغياب الذاكرة هو غياب كبير لإرادتنا، وسيكون للمحيط فعله التام بنا ، فالموجد يصبح موجودا دائما وفق إمكانية خارجية تامة (ما يريده ويجري به وإليه المحيط) وهي إمكانية قاتلة في نهاية المطاف ، فأنت بلا إرادة هي ذاتها أنت بلا ذكريات، فأنت من أنت بلا ذاكرة؟ حتي هويتك عند الآخرين تحتفظ الذاكرة بالوظيفة نفسها.
اللغة بصفتها اختزالًا أقل حدة
ما يعنيه “القلب” باللغة، هو ما يعنيه القلب بالثلاثية الوجودية (ممكن القول بأن لفظ ”قلب” في تكوين اللغة وسياقها انطلق من وعي وعقل أشمل وأكبر من اختزالات العلم التجريبي التي دفعت نحو القلب في علم الجسد بصفته عضلةً وأعمالا فيزيائية و كيموحيوية، وهو التعريف الذي لا يصح الاعتماد عليه للقول بأن ما عليه خطاب الناس في شعرهم وشعورهم “خطأ”، فالقلب باللغة إشارة للحب، للمشاعر عمومًا، وهو اختزال للذات بالوجود والحياة مجازيًا، لكون عضو القلب هو عضو البقاء على قيد الحياة، وفيما يخص الشعور فمنطقة الصدر هي منطقة الأحاسيس ، وهو منظم النبضات ومضخة (الحرارة أيضًا) ومن خلال تسارع أو تباطؤ النبضات يكون الخوف والهلع أو الهدوء والراحة (إنه شريك فسيولوجي بالجزء الذي يخص العاطفة) فما هي العاطفة ؟ إنها وفق تعريف علم النفس الأمريكية :“نمط تفاعلي معقد يتضمن عناصر اختبارية/تجريبية وسلوكية وفسيولوجية“، وإن كان القلب يدخل بالتكوين الفسيولوجي فإن الوعي ذاته (مجهول بالنسبة للعلم ) فظاهرية الوعي غير مفهومة وإن كانت وظائف الدماغ تعمل رئيسيا فيها إلا أن هناك حلقات مفقودة ليس للعلم (التجريبي) قدرة على إيجادها، لذا يظل الانفعال والعاطفة والوعي بهما وبغيرهما موضوعًا غير محسوم، وحين مالت كل اللغات لاستخدام القلب (دلالة للعاطفة أو النية أو حتى التفكير) فإن هذا لكونه ممثلا للمزيج الثلاثي (الروح، العقل،الجسد) و (الماضي، الآن، المستقبل) أيضًا، إنه لغة وجودية مجازية تشير للقلب ، تشير للحياة والتمسك بها.
اللغة بصفتها شريكًا للعقل باختزالنا
كل شيء بالخارج يعكس على العقل واللغة معًا وجوده، وهما أي العقل واللغة يؤسسان الاختزال الوجودي، أن أختصر وعيي بما هو خارجي وداخلي بأفكار وكلمات، ويا له من رعب أن تكون مختَصَرًا طيلة الوقت ومضطرًا لذلك جاء الشعر محاولةً (فاشلة) أو اعترافًا حزينًا بأننا نتحطم في اختزالنا لما نعيه من أجل البقاء في عالمنا الغريب الجميل هذا من خلال الفهم (العقل/اللغة) ومن خلال التواصل (اللغة/العقل)
بجواري هديل اليمام، وزقزقة العصافير، وحفيف الأشجار برقصةٍ مدهشةٍ على مسرح الغناء الأخضر، وها هو شعاع الشمس الجريء يمتزج بخمرة الريح، وأما الظل فإنه كعادته يسترق النظر ويتكاثر ببطء معلنًا عن ولائه لسيّده الليل بعد ذلك …
هل ما سبق هو ما أعيه الآن ؟
هناك الكثير الكثير مما لا تسعه اللغة ناهيك عن كونه للآن غير ملحوظ ويعمل في خفاء لكون العقل قد نمّط ذاته في تحقيق أهدافه وأهدافي أيضًا بما علي الاهتمام به وإدراكه، ويصب بالنهاية في بقائي كما أتصوره ويناسب إمكانياتي التي هي أيضًا كما أتصورها ويتصورها المجتمع (هناك الكثير أيضًا ينبغي قوله بهذه النقطة لكن ها هي معضلة الاختزال تظهر مرة أخرى لتعيق وعيي وما به من عقل حر ووجودي للبوح ، وها هي معضلة الاختزال هذه المرة ستشمل (لغة خارجية تعيق لغة داخلية) و (عقل خارجي يعيق عقلا داخليا)
ثم ألا تلاحظون كيف اتجهت للاستعارات والانزياحات لأعبّر عن جمال وحِدة واستحالة الوصف الكامل؟
هل أدركت الجمال مستندًا على ألم العجز عن تعبيري عنه ؟ أي أنني مدرك لكوني لا أستطيع التعبير عن ذاتي بالحجم والشكل الذي يكون وعيي هو سيولتي بالعالم خارجيًا وبالتالي كان شعوري بالجمال (لكوني أتألم ضمنيًا ولا شعوريا من اللغة والعقل وبقية أدوات الاختزال التي تشمل اختزالي لحواسي واختزال حواسي للكواليا (الكيفيات والحسيّات)
هل أنا واعٍ بجمال الحياة لأني أتألم بها ؟ أتألم دون أن أشعر بعذابي؟ أشعر بجمال العالم لأنه التعبير الوحيد الذي يستطيع (الوعي) به أن يقول بأنه في وجع لا مثيل له لكون العقل واللغة أداتين عاجزتين أبد الدهر عن التعبير عنه؟ هل أزمة الحياة هي أزمة الاختزالات ؟ وهل الموت جاء نتيجةَ أنني منذ البدء كائن معذب ؟
هل أنا حي لأنني لم أدرك بعد (في ذهني وتجربتي المعرفية والوجدانية) أنني مخدوع بقولي : “أنا” ، إذ تعمل اللغة والعقل باختزالي ؟
هل اختزالي هو حياتي التي هي بفعله مقدمة لموتي؟
هل الوعي هو التحطم؟
ماذا عن الجمال ؟ ماذا عن الفنون ؟ ماذا عن الشعر؟
للحديث بقية ..
عصام مطير





